لا أعْرف أنْ أتَحايل على الكلِمات لِأُقُوِّلَها ما لا يَحْتمِلُه واقع الحال ، لا أعْرِف كيف أتحدَّثُ عن التَّنمية الثقافية والنَّبْتة لا تنمو بدون بذور في تُرْبة خصبة ، يجب الإقْرار أننا نعيش في وسط لا ثقافي فقير ، أوَ ليس من مظاهر الثقافة بالمنظور الكلاسيكي ، رواج حركة الكتاب ومُنْتديات السينما والمسارح ومعارض الفُنون والمتاحف والأدب والموسيقى إلى آخر الطرب.. إنَّ هذه العناصر التي تُشكِّل مَظْهراً حضارياً في السُّلوك الاجتماعي ، أصبحت للأسف ضَرْباً من النُّوسْطالجيا الذي يَسْتدِرُّ أدْمُع الحنين للزمن الجميل ، لقد طُوِيت القاعات على شساعتها وانفتحت الحواسيب على ضيْقها ، هنا المِنَصَّات الإلكترونية تَعْرض أحدث الأفلام المُقَرْصَنة ، تُوفِّر عناء التنقل وتحْفَظ الجيب من الجفاف والتَّمَحُّل ، هنا روتيني اليومي تحت الحزام ..هل ثمّة ما يَسْتحق الفُرْجة بجمهور غفير أفْضل من الاطِّلاع على أسرار البيوت ، هنا شبكة (تيك توك) خشبة مفتوحة للجميع ، تتراوحُ أنْشِطتُها بين استعراض المواهب واقتراف المصائب ، ولكن حين يدخل قِطٌّ في الخَط يتفوَّق بعدد المُشاهدات واللايكات ، لوْ عاش «جورج أورويل» في زمننا الأغْبر، لأعاد كتابة «مزرعة الحيوان» بعد أن اتَّسَع الإسطبل وشَمَل الإنسان !
هل يجِب التَّنكُّر لهذه الأشكال التعبيرية الإفتراضية ونُسْقِطها من حساب الشَّأن الثقافي ، أوَ ليس تُساهِم بقسْطٍ وفير في الناتج الخام من الاقتصاد الوطني ، فهي وكما يَعْلم أبسط بائع للهواتف الغبيَّة، وثيقةُ الصِّلة بقِطاع الاتصالات التي تجاوزت السلكية واللاسلكية إلى الأنترنيتية ، إنَّ هذه الثَّقافة الجديدة والتي تزيد في تعميق نظام التَّفاهة ، تُدِرُّ من الأموال في الدقيقة مواسير غير مُنْقطِعة الصَّبيب ، هنا تَكْمُن التنمية الثقافية بكل أوزانها سواءً الثقيلة أو الخفيفة ، وقدْ تظهر عائداتُها حتى لا أقول نِعْمتُها على الفرد في ظرف مقْطَع فيديو على الانستغرام أو فيسبوك ، إنّها التنمية الثقافية التي لا تسْتدعي من المواطن الإنْفاق لِيُلبِّي حاجياته الروحية والفكرية ، بل ثمة من الخبراء من يُدْرِج هذا القَدَر الحتْمي في إطار "الاقتصاد الرقمي" ، رغم عشوائيته الأشْبه بالسَّكن الذي لا يخضع لهندسة أو تصميم ، فقط يطفو على السَّطْح العمومي كيف ما اتَّفَق، ولا يهمُّه وهو يُشْبعُ النوازع المكبوتة أنْ يُلوِّث السمع والبصر ، لا يُهمُّه أن يُعمِّمَ التَّشابُه ليتنامى بأُحادية التفكير قطيع البقر !
ومِمَّا يزيد في كساد السوق الثقافية وبَوَارها على أرض الواقع ، عدم تفعيل المساطر القانونية التي تكْفل الحُقوق للمشتغلين في صناعة مُخْتلف الاقتصاديات الثقافية ، أغلب أدبائنا ومفكرينا وفنانينا مِمَّن يَلُوحون كالأنجم في السماء ، سُرعان ما ينطفئون في أول أزمة صحية ، ويكتشف الجميع أنَّهُم فقراء لا يمتلكون حتى مصاريف العلاج ، كيف إذاً يمكن التَّشَدُّق باقتصاد الثقافة في البلد ، ونحن لا نتوفَّر على إطار قانوني صريح يُنظِّم كل الأشكال التعبيرية في مِهنٍ تحْظى بالاعتراف الرَّسْمي ، هل ثمة من يحْمل مهنة كاتب أو مُمثِّل أو فنان تشكيلي في بطاقته الوطنية ، كيف تتحقَّق التنمية الثقافية ومَنْ يُنْتج أشكالها التعبيرية نَعتبر إنجازه مَهْما كان عظيماً يُشرِّف البلد ، مُجرَّد هِواية لا تُغْني ولا تُسْمِن من جوع ، لا أنْكر أنَّ مُبدعينا شبعوا حتَّى التُّخْمة من خطاب الألْقاب المعْسُول ، فهذا المفكر العظيم ، وتلك الفنَّانة القديرة ، وذاك الأديب الأريب الكبير.. وكل هذا وتلك وذاك لنْ يُفيد إلَّا في تضْخيم الرأسمال الرمزي ، قد يُنْعِش القلب بالزَّهْو المُؤقَّت ولكنه لا يَصِل للجيب !
يُقال إنَّ الشّيطان يَكْمن مُتربِّصاً في التفاصيل ، وأقُول إنَّ نفْس الشَّيطان ينْتعِشُ حيث يوجد انحِلالٌ في القِيم ، يُشجِّع الانتهازي والوصولي والمُتسلِّق ، على حساب المُثقَّف الحقيقي الذي ينْأى بنفسه عن مُناخٍ أفْسَدتْه الشُّبُهات ، يُوثِر التَّواري في الظِّل على أنْ يحْترِق ، كيف لا والوضْعُ الثقافي يشْتغِل في ظروف غامضة بدون قوانين تكْفل الحقوق والواجبات بين جميع الأطراف ، لا يُمْكن أن نتبيَّن ولو في وضَح النهار ، الخيْط الناظم بين مُنْتِجي الثقافة أو مُسوِّقيها أو مُسْتهلِكيها بالصُّدفة ، من أينَ مع هذا الجُمود المُلْتبِس حتى لا أقول البرود العاطفي ، يُمْكن أن ترتعش عجلة التَّنمية الثقافية ولو بأبْسط حركة ، عِلماُ أنّ مفهوم التنمية في نشْأته الأولى ، كان انعكاساً لحركة التعليم العمومي والناس والثقافة ، هكذا تتجاوز التنمية الثقافية حدود التسمية ، تتجاوز الخطاب السياسي الذي يجعلها مُناسباتية جوفاء ، تطفو خفيفة كالزيت على سطح نشرات الأخبار ، وغيرها من التقارير الإعلامية ، لقد أصبحت كلمة (التنمية) عندنا قويَّة التَّردُّد حتى في بعض الأغاني الوطنية ، وغالباً ما تُسْعِف الألسنة على التودُّد لِكسْب بعض الرهانات السياسية المُؤقَّتة ، وما شِدّة تكرار هذه الكلمة في واقع موبوء يُكرِّس التخلُّف الاجْتِماعي ، إلا تعبير اليائس عن الأزمة !