بقلم: عبد العزيز كوكاس
كان المغاربة مع بداية الانفتاح السياسي منتصف التسعينيات في وضع من يجربون استعادة ذاكرتهم الفردية المحروسة والجماعية المقموعة أو المهربة، قامت الصحافة بدور كبير في تشجيع الفاعلين على نشر مذكراتهم، فكانت مذكرات الرايس ثم حوارات سيرية مع الفقيه البصري، ورموز عديدة من رجالات المقاومة وجيش التحرير ثم مع قياديي اليسار الجديد ممن حكوا مذكراتهم خلال سنوات الجمر والرصاص، ثم أخذ السياسيون يدلون بدلوهم عبر سلسلة حوارات متلفزة أو مذاعة أو ينشرون مذكراتهم باللغتين الفرنسية والعربية، ثم دخل الصحافيون ميدان كتابة المذكرات والسير الذاتية، خاصة ممن كانوا أو اعتبروا أنفسهم شاهدين على مرحلة مليئة بالأحداث والوقائع، ومحاطة بالأسرار ومتلفعة بالألغاز..
لكتابة المذكرات ومختلف الشهادات وظائف عديدة، منها إثراء الذاكرة الجماعية، حفظ الوقائع المسجلة من زاوية ذاتية من النسيان والتلف، تعدد المحكيات، بالإضافة إلى ثرائها الأدبي خاصة في مجال السرديات السيرية، فهل تساعدنا المذكرات والحوارات السير ذاتية لبناء معرفة أكبر بالوقائع والأحداث، وفهم فضاءات الذاكرة للأمكنة والمجالات والأشخاص كما للحركات والسيرورات المجتمعية، لكن في كل كتابة للمذكرات يتم التبئير على الأنا كمحور للحدث، إن الماضي هنا يحضر من خلال موقعنا في الحاضر، أتذكر بقوة ما ردده فرانز كافكا: “إننا نزداد حكمة بتذكر أنفسنا في الماضي، وتذكر كل ما مررنا به وواجهناه بكل شجاعة”.
تعتبر كتابة الذاكرة جزءا من بناء التاريخ الفردي والجماعي للأمة، وبرغم بروز العديد من المذكرات خاصة في بداية هذا القرن، فإننا مع ذلك نلاحظ أن العديد من المسؤولين والقياديين ومختلف الفاعلين في شتى المجالات عندنا لا يكتبون مذكراتهم التي هي جزء من تراث الأمة، فالعديد منهم يرحلون بأحداث ومعلومات مهمة، ويموتون وفي صدورهم شهادات مفيدة للتأريخ، فتصبح بذلك المقابر التي تضم هذه الشخصيات بعد رحيلها أغنى من حيث ما تحتويه من شهادات دفنت مع أصحابها، وكان يمكن أن تكون لمذكراتهم وشهاداتهم فائدة ثرية على تاريخنا وعلى مستقبل أجيالنا لفهم أكبر لحاضرهم من خلال استيعاب مفاتيح ماضيهم.
ما الذي يجعل أغلب سياسيينا وزعمائنا ومسؤولي أحزابنا ومنظماتنا وحتى المشاهير من فنانينا والأطر الكبرى في شتى المجالات تستنكف من كتابة مذكراتها والإدلاء بشهادتها حول عصرها في الوقت الذي تزخر به الأمم المتقدمة بسيل عارم من المذكرات من رئيس الدولة حتى عامل النظافة، ومن المشاهير إلى شخص مجهول في هامش منسي، الكل يضع تجربته في خدمة الذاكرة الجماعية؟
وأنا أعرض لهذا الموضوع انتهيت من قراءة كتاب “بين الصحافة والسياسة” للصحفي الراحل محمد حسنين هيكل، حيث شدتني قدرة الرجل ـ من خلال كتابه ـ على اختراق جدران الصمت وكشف المسكوت عنه في زمن صعب، والإدلاء بشهادته الحية عن وقائع كان في قلبها.
لقد تردد كثيرا في كشف صفحات غامضة من التاريخ المعاصر لمصر مع مجيء الثورة الناصرية، وكشف الترابطات التي عاشها داخل عالم الصحافة في اشتباكه مع المجال السياسي… تردد كثيرا في هذا البوح لكن نداء داخليا كان يجذبه نحو الكلام، رغم أنه يعرف مسبقا أنه مهمة تجر خلفها سيلا من الصعاب والأهوال، يقول: “فلدى الآخرين سلطة وليس في يدي شيء، ولدى الآخرين منابر ضخمة كأنها الصحون وأنا في الهواء الطلق أو في العراء.”
كان يمكن أن يرحل بكل ما عاشه دون أن يثير من حوله غبار النقد والسخط، لكن كان هاجسه الكشف عن الحقائق وإيصالها إلى الناس، إذ أننا نجده عند تقديمه للكتاب يلح قائلا: “لا بد، إذا كانت لهذه الصفحات قيمة أن تصدر بينما جميع الأطراف على قيد الحياة يملكون فرصة الرد إذا شاؤوا، وبأي وسيلة يختارون”.
لماذا لا نجرب الحديث في موضوعات انقضت بالفعل احتمالات التأثير على مجراها؟ لماذا لم يتم حتى الآن الكشف عن المسكوت عنه في مسارنا السياسي، خاصة في مرحلة الكفاح الوطني والديمقراطي؟ لماذا لم يكتب ساستنا وصناع القرار لدينا مذكراتهم؟ وإذا كُتبت لماذا لم تنشر إلا لدى فئة قليلة؟ وحين تكتب ألا يتم حجب الكثير من المعطيات عنها كما عشنا في مذكرات زعماء كبار، كانت شهادتهم ناقصة عن العصر الذي عاشوه.
هناك نوع من التضخيم في تسييح الحقائق وحجب المعطيات والوقائع، مع العلم أن معرفة ماضينا القريب ستساعد بدون شك على فهم سلوكياتنا الحاضرة، إن هذا الصمت هو الذي يجعل كل طرف/ فاعل يعتقد بأنه وحده له أحقية الكلام وسلطة توزيع الحقيقة، مع العلم أن الذاكرة مشتركة والتاريخ ملك جماعي.
اكتبوا يرحمكم الله لتصبح الخزانات والمكتبات وذاكرة الأحياء الجماعية أغنى من المقابر.. فالآن وقت الكتابة وإلا فلا كتابة!
لكتابة المذكرات ومختلف الشهادات وظائف عديدة، منها إثراء الذاكرة الجماعية، حفظ الوقائع المسجلة من زاوية ذاتية من النسيان والتلف، تعدد المحكيات، بالإضافة إلى ثرائها الأدبي خاصة في مجال السرديات السيرية، فهل تساعدنا المذكرات والحوارات السير ذاتية لبناء معرفة أكبر بالوقائع والأحداث، وفهم فضاءات الذاكرة للأمكنة والمجالات والأشخاص كما للحركات والسيرورات المجتمعية، لكن في كل كتابة للمذكرات يتم التبئير على الأنا كمحور للحدث، إن الماضي هنا يحضر من خلال موقعنا في الحاضر، أتذكر بقوة ما ردده فرانز كافكا: “إننا نزداد حكمة بتذكر أنفسنا في الماضي، وتذكر كل ما مررنا به وواجهناه بكل شجاعة”.
تعتبر كتابة الذاكرة جزءا من بناء التاريخ الفردي والجماعي للأمة، وبرغم بروز العديد من المذكرات خاصة في بداية هذا القرن، فإننا مع ذلك نلاحظ أن العديد من المسؤولين والقياديين ومختلف الفاعلين في شتى المجالات عندنا لا يكتبون مذكراتهم التي هي جزء من تراث الأمة، فالعديد منهم يرحلون بأحداث ومعلومات مهمة، ويموتون وفي صدورهم شهادات مفيدة للتأريخ، فتصبح بذلك المقابر التي تضم هذه الشخصيات بعد رحيلها أغنى من حيث ما تحتويه من شهادات دفنت مع أصحابها، وكان يمكن أن تكون لمذكراتهم وشهاداتهم فائدة ثرية على تاريخنا وعلى مستقبل أجيالنا لفهم أكبر لحاضرهم من خلال استيعاب مفاتيح ماضيهم.
ما الذي يجعل أغلب سياسيينا وزعمائنا ومسؤولي أحزابنا ومنظماتنا وحتى المشاهير من فنانينا والأطر الكبرى في شتى المجالات تستنكف من كتابة مذكراتها والإدلاء بشهادتها حول عصرها في الوقت الذي تزخر به الأمم المتقدمة بسيل عارم من المذكرات من رئيس الدولة حتى عامل النظافة، ومن المشاهير إلى شخص مجهول في هامش منسي، الكل يضع تجربته في خدمة الذاكرة الجماعية؟
وأنا أعرض لهذا الموضوع انتهيت من قراءة كتاب “بين الصحافة والسياسة” للصحفي الراحل محمد حسنين هيكل، حيث شدتني قدرة الرجل ـ من خلال كتابه ـ على اختراق جدران الصمت وكشف المسكوت عنه في زمن صعب، والإدلاء بشهادته الحية عن وقائع كان في قلبها.
لقد تردد كثيرا في كشف صفحات غامضة من التاريخ المعاصر لمصر مع مجيء الثورة الناصرية، وكشف الترابطات التي عاشها داخل عالم الصحافة في اشتباكه مع المجال السياسي… تردد كثيرا في هذا البوح لكن نداء داخليا كان يجذبه نحو الكلام، رغم أنه يعرف مسبقا أنه مهمة تجر خلفها سيلا من الصعاب والأهوال، يقول: “فلدى الآخرين سلطة وليس في يدي شيء، ولدى الآخرين منابر ضخمة كأنها الصحون وأنا في الهواء الطلق أو في العراء.”
كان يمكن أن يرحل بكل ما عاشه دون أن يثير من حوله غبار النقد والسخط، لكن كان هاجسه الكشف عن الحقائق وإيصالها إلى الناس، إذ أننا نجده عند تقديمه للكتاب يلح قائلا: “لا بد، إذا كانت لهذه الصفحات قيمة أن تصدر بينما جميع الأطراف على قيد الحياة يملكون فرصة الرد إذا شاؤوا، وبأي وسيلة يختارون”.
لماذا لا نجرب الحديث في موضوعات انقضت بالفعل احتمالات التأثير على مجراها؟ لماذا لم يتم حتى الآن الكشف عن المسكوت عنه في مسارنا السياسي، خاصة في مرحلة الكفاح الوطني والديمقراطي؟ لماذا لم يكتب ساستنا وصناع القرار لدينا مذكراتهم؟ وإذا كُتبت لماذا لم تنشر إلا لدى فئة قليلة؟ وحين تكتب ألا يتم حجب الكثير من المعطيات عنها كما عشنا في مذكرات زعماء كبار، كانت شهادتهم ناقصة عن العصر الذي عاشوه.
هناك نوع من التضخيم في تسييح الحقائق وحجب المعطيات والوقائع، مع العلم أن معرفة ماضينا القريب ستساعد بدون شك على فهم سلوكياتنا الحاضرة، إن هذا الصمت هو الذي يجعل كل طرف/ فاعل يعتقد بأنه وحده له أحقية الكلام وسلطة توزيع الحقيقة، مع العلم أن الذاكرة مشتركة والتاريخ ملك جماعي.
اكتبوا يرحمكم الله لتصبح الخزانات والمكتبات وذاكرة الأحياء الجماعية أغنى من المقابر.. فالآن وقت الكتابة وإلا فلا كتابة!