بقلم: الدكتور خالد فتحي
ولكني ،وقد ملكت علي هذه المجموعة وقتي و استبدت بملكاتي كلها ، أميل الآن إلى القول بأن القراء هم الجديرون بالتهنئة، لأن عودة سعد العلمي للأدب بعد أن هجره طويلا ،أتاحت لهم مجموعة قصصية رائعة تستحق أن تقرأ، وأن تقرأ بتمعن وروية .
قرأت كما قلت بعضا من هذه القصص ووجدت، انها قصص دسمة محكمة البناء ،مليئة بالمعاني العميقة التي تشحذ الفكر والخيال ، ألفيتها متشابكة وذات شجون . هي ليست قصيرة بل طويلة ،كأنها ثلاثية أو خماسية روائية .
وهي على قصرها المادي ، قد أسرتني، واثارت لدي اسئلة وأفكارا جديدة :
- لغة الكاتب جزلة نقية متخلصة من التبذل والابتذال،و أسلوبه رصين واضح، بعيد عن التعقيد، بريء من التصنع والتكلف.
هي أيضا قصص لم يبتغ بها المؤلف تقديم الجمال الفني والأدبي فقط لجمهوره ،بل أراد بها أن تكون حمالة رسائل سياسية مبطنة و ناقلة افكار عميقة مغلفة بحرفية عالية .
لاغرو أن سعد العلمي يمكنه حين يقص، أن يتفوق ويتفرد ، وأن يسك له منهجه الخاص في التبليغ القصصي .
فهو أديب وكاتب ، ولكنه أيضا قد كان وزيرا، وسفيرا، وبرلمانيا سابقا ومريدا مخلصا لرواد الحركة الوطنية المغربية الأوائل،وهذا مايضفي على أعماله بعدا آخر .
وبالتالي،لست اظن الا ان القارئ سيشقى شقاء سعيدا وهو يعمل عقله، كي يفك رموز القصص القصيرة لسعد العلمي .
بعض القصص عنده لاتتعدى صفحة او صفحتين ، بل منها مايستغرق سطرين فقط .
هي قصص قصيرة جدا كما قد سماها . قد نعتبرها نحن إشراقات أو ومضات لمعت في دواخل النفس ،أو هي شذرات قصصية كما فضل أن يطلق عليها مقدم مجموعته الناقد نجيب العوفي ،لكن سعدا يعتد بها أيما اعتداد ، وقرأها علينا بمعرض الكتاب باعتبارها قصصا مكتملة الأركان مستوفية الأوصاف ، وانا أقره واوافقه على ذلك موافقة تامة .
ولاشك عندي انك ستفعل انت أيضا ذلك، ،لأنك عندما ستقرأها، ستحس ،كأنما قد بثك الكاتب فيضا من المشاعر والأحاسيس والهواجس والمعاني والدلالات :
الإشراقة من سعد، والقصة ستتخلق منك انت داخل سراديب خيالك ،وبالتالي ستشعر من خلال قراءتك كما لو خيال الكاتب يتفاعل مع خيالك .
إن سعدا ، وقد جازف بالومضة القصصية،ليبرهن عن علو كعبه ، وعلى أنه لايخشى أن يتأسى بكبار الروائيين الذين كتبوا القصة القصيرة جدا كادأرنست همنغواي، البير كامو ، كافكا ،...وهذا نستشف منه نحن ثقة اديبنا بقدرته الفائقة عل التكثيف والرمزية والتلميح واجتراح النهايات المفتوحة .
حين نعود لتواريخ هذه القصص نجد ان اغلبها تعود لمرحلة السبعينات والثمانينات من القرن الماضي ،وبهذا المعنى ،نحن بصدد القاص سعد العلمي لتلك الفترة الحرجة من تاريخ المغرب ، فترة شباب ،وهنا نطرح السؤال المشروع،لماذا جمد سعد قريحته القصصية واستغرق كل الاستغراق في السياسة،ولم يفرج عن قصصه إلا اليوم ؟ .إنه سؤال مفتوح كما أغلب نهايات قصص مجموعته .
لكن العجيب والمبهر في هذه القصص، انها تطلق حريتنا في التأويل اطلاقا، .كل منا سيستطيع ان يمنحها معنى وحياة جديدة حين يقرأها .هذه التقنية في الكتابة لايقدم ولايجرؤ عليها الا المتمكنون المبدعون في فن وصنعة الأدب، بل لايستطيعها الا الكتاب النادرون الذين يدركون أن القارئ لا يقرأ لهم فحسب، بل يقرأ بين السطور، ويشعر بوجودهم وسماتهم في كل حرف قد قيدوه على الورق .
حين تقرأ قصص سعد تشعر وكأنك في حضوره، يقودك بين المعاني، كأنما يدعوك للتفكير في تجاربه السياسية والنضالية، عبر هذه القصص القصيرة التي تختصر الزمن والمسافات، وتربط بين الأجيال. وكلما قرأته اكثر، كلما قد تجده يذهب بك في رحلة مختلفة عن الرحلة السابقة ،يقع هذا بصدد نفس القصة،انها قصص شديدة المحال حقا .
إنك تقرأ لسعد ، وانت ترى دائما في خلفية القصة ظله ومساره وشخصيته.
لقد اختار هذا الأديب العائد القصة القصيرة والقصيرة جدا، لأنه اراد ان يختصر، ان يلخص لنا تجربته، ويمدنا بسيرة فكرية ونضالية غير ذاتية له عبر قصصه .ولكنه، غير مستبد ،يترك لنا أن نفهم منها على قدر استعداداتنا و مؤهلاتنا.
أعتقد أن نضجه الفكري المبكر جعله ينأى منذ البداية عن الرواية ،وإطناب الرواية . و أنه حين تقدم في التجربة ،وكتب قصصا في سنة 2020 ,اذا بها تقصر أكثر، كأنما يعلن بهذا القصر أنه استوى أكثر وأنه انتقل الى مقام أعلى في كتابة القصة،مقام يتكثف فيه المعنى . ألم يقل الصوفيون، إنه كلما اتسع المعنى، ضاقت العبارة.
وقع هذا لسعد ،وقد قطع اشوطا بعيدة في عالم السياسة ،ولذلك نظن انه مخطئ جدا من يقول إن السياسة والأدب مجالان متناقضان أو متوازيان ، سعد العلمي قد أثبث انهما يتقاطعان في بعض النفوس المرهفة،و لدى بعض الاقلام السيالة.
فالسياسة، بحركيتها العنيفة وتقلّباتها واضطرابها ، غالباً ما تُصبح الخلفية التي يُعاد فيها تشكيل وعي الأديب، وتنضج فيها رؤاه، بل وتُخلَق فيها أعظم أعماله.
من هذه المجموعة نستشف ان السياسة قد عركت الأدب عند سعد العلمي ، بما تطرحه من قضايا وجودية، كالقمع، الحرية، العدالة، الهوية، والانتماء.بهذا المعنى تكون السياسة قد دفعت أديبنا هذا دفعًا نحو إعادة النظر في ذاته، وفي مجتمعه.
سعد العلمي في مجموعته ليس مجرّد كاتب حكايات، بل هو شاهد على عصره، وناقد لتاريخه، ومؤرّخً بالقصة لوجدان الشعب المغربي .
اننا نلاحظ بالمناسبة كذلك أن كثيرًا من الروائيين الكبار لم يظهروا على الساحة الأدبية إلا في سنّ متقدمة، غالبًا بعد الستين. هذا ليس مصادفة. وهو معيار اعتمده شخصيا لانتقاء قراءاتي في القصة والرواية . لأن الأديب لا يُنتج أدبًا عظيمًا إلا بعد أن يمرّ بتجربة سياسية أو اجتماعية تُهشّم نظرته الساذجة للعالم، وتُجبره على إعادة بنائه من جديد عبر الكتابة.
فغالبًا ما تكون الكتابة في هذه المرحلة نوعًا من "الاعتراف"، أو "التصفية" التي يصل فيها الكاتب إلى ذروة الوعي السياسي والإنساني.مثال:
نجيب محفوظ، الذي لم يكتب ثلاثيته الخالدة بين القصرين وقصر الشوق والسكرية إلا في منتصف عمره، بعد أن خبر ثورة 1919 وتبدلات الحياة في مصر. لم يكن ليكتبها بتلك العمق لو لم يعش التحولات الكبرى في السياسة والمجتمع.
السياسة تُنضج و لا تُفسد،بينما السياسي يُمكن أن يُفسد، لكن السياسة – كتجربة وجودية – تنضج الأديب. تُمزّق براءته، وتدفعه ليُواجه الأسئلة الأصعب. من نحن؟ إلى أين نمضي؟ ماذا تعني الحرية؟ هذه الأسئلة لا يطرحها إلا أديبٌ خَبِرَ مرارة التحوّلات، وشهد سقوط الشعارات وتهاوي الاحلام الوردية .
السياسة كانت الرحم الذي تم فيه تخلق وولادة الأديب سعد العلمي . هي لم تظهره فقط، بل صقلته أيضًا، ومنحته مادته الأدبية الخام وسردياته .
مااكثر هذه المواد الأدبية الخام عند سعد العلمي وما أشد تنوعها وثراءها ،وما اخصب خياله .
في قصة الماتدور التي تعني القاتل بالاسبانية ،يصور كيف سيخر الثور بسيف المصارع ،تحت عاصفة من تصفيقات الحسان .هذا النص مستفز، لأنه يعري الطبيعة الانسانية وخصوصا تلك الجماهير التي تشجع الظالم ،وتصفق للمقاتل رغم معاينتها للعنف الواقع على الثور الذي يمثل الطرف الضعيف ،وهذا يشير إلى ثقافة الخنوع وحتى التشجيع على الظلم التي تميز بعض المجتمعات التي ترضخ لسلطة لاتنصفها،هذا النص هو مقالة عن الظلم وكيفية تدجينه للضعفاء وللمجتمعات التي تحتفي بالظالم وتبجله وتغض الطرف عن انتهاكاته سواء داخل الدول أو على مستوى الركح الدولي . في النص الذي يحمل عنوان "تعود" ،يحكي القصاص عن العصفور الذي لم يهتد لمغادرة قفصه ،رغم أن باب القفص قد فتح ،وهو كناية عن أولئك الذين يستمرأون البقاء على عبوديتهم ،سواء بفعل التعود عليها ،أو بفعل وقوعهم في حب الجلاد كما هو الحال في متلازمة ستكهولم ،أو لأنهم عبيد لايعون عبوديتهم ،وبالتالي يستحيل عليهم أن يفكوا اغلالهم .
يريد في هذه القصة أن يبرهن لنا على صدق المثل الذي يقول انك تستطيع أن تأتي بالفرس إلى النهر لكنك لاتستطيع أن تجبره على الشرب ،كانه يرمز إلى أن الشعوب التي طال انقهارها وانكسارها تألف هزيمتها ،فلا فائدة أن يحرق المناضل نفسه لينير الطريق لشعوب ترفض أن تتحرر أو لاتشعر بالحاجة للتحرر .
ختاما ،استطيع ان اقول :
ان قارئ هذه المجموعة القصصية، لن يفرغ منها إلا راضيا مغتبطا مبتهجا، والا راجيا بالخصوص أن يمتعه سعد العلمي من حين وحين بقصص أخرى تشبه هذه القصص التي تنبض بالعمق والإبداع،قصص تعكس هذه المرة نظرته الحالية للسياقات وللحياة والوجود
قرأت كما قلت بعضا من هذه القصص ووجدت، انها قصص دسمة محكمة البناء ،مليئة بالمعاني العميقة التي تشحذ الفكر والخيال ، ألفيتها متشابكة وذات شجون . هي ليست قصيرة بل طويلة ،كأنها ثلاثية أو خماسية روائية .
وهي على قصرها المادي ، قد أسرتني، واثارت لدي اسئلة وأفكارا جديدة :
- لغة الكاتب جزلة نقية متخلصة من التبذل والابتذال،و أسلوبه رصين واضح، بعيد عن التعقيد، بريء من التصنع والتكلف.
هي أيضا قصص لم يبتغ بها المؤلف تقديم الجمال الفني والأدبي فقط لجمهوره ،بل أراد بها أن تكون حمالة رسائل سياسية مبطنة و ناقلة افكار عميقة مغلفة بحرفية عالية .
لاغرو أن سعد العلمي يمكنه حين يقص، أن يتفوق ويتفرد ، وأن يسك له منهجه الخاص في التبليغ القصصي .
فهو أديب وكاتب ، ولكنه أيضا قد كان وزيرا، وسفيرا، وبرلمانيا سابقا ومريدا مخلصا لرواد الحركة الوطنية المغربية الأوائل،وهذا مايضفي على أعماله بعدا آخر .
وبالتالي،لست اظن الا ان القارئ سيشقى شقاء سعيدا وهو يعمل عقله، كي يفك رموز القصص القصيرة لسعد العلمي .
بعض القصص عنده لاتتعدى صفحة او صفحتين ، بل منها مايستغرق سطرين فقط .
هي قصص قصيرة جدا كما قد سماها . قد نعتبرها نحن إشراقات أو ومضات لمعت في دواخل النفس ،أو هي شذرات قصصية كما فضل أن يطلق عليها مقدم مجموعته الناقد نجيب العوفي ،لكن سعدا يعتد بها أيما اعتداد ، وقرأها علينا بمعرض الكتاب باعتبارها قصصا مكتملة الأركان مستوفية الأوصاف ، وانا أقره واوافقه على ذلك موافقة تامة .
ولاشك عندي انك ستفعل انت أيضا ذلك، ،لأنك عندما ستقرأها، ستحس ،كأنما قد بثك الكاتب فيضا من المشاعر والأحاسيس والهواجس والمعاني والدلالات :
الإشراقة من سعد، والقصة ستتخلق منك انت داخل سراديب خيالك ،وبالتالي ستشعر من خلال قراءتك كما لو خيال الكاتب يتفاعل مع خيالك .
إن سعدا ، وقد جازف بالومضة القصصية،ليبرهن عن علو كعبه ، وعلى أنه لايخشى أن يتأسى بكبار الروائيين الذين كتبوا القصة القصيرة جدا كادأرنست همنغواي، البير كامو ، كافكا ،...وهذا نستشف منه نحن ثقة اديبنا بقدرته الفائقة عل التكثيف والرمزية والتلميح واجتراح النهايات المفتوحة .
حين نعود لتواريخ هذه القصص نجد ان اغلبها تعود لمرحلة السبعينات والثمانينات من القرن الماضي ،وبهذا المعنى ،نحن بصدد القاص سعد العلمي لتلك الفترة الحرجة من تاريخ المغرب ، فترة شباب ،وهنا نطرح السؤال المشروع،لماذا جمد سعد قريحته القصصية واستغرق كل الاستغراق في السياسة،ولم يفرج عن قصصه إلا اليوم ؟ .إنه سؤال مفتوح كما أغلب نهايات قصص مجموعته .
لكن العجيب والمبهر في هذه القصص، انها تطلق حريتنا في التأويل اطلاقا، .كل منا سيستطيع ان يمنحها معنى وحياة جديدة حين يقرأها .هذه التقنية في الكتابة لايقدم ولايجرؤ عليها الا المتمكنون المبدعون في فن وصنعة الأدب، بل لايستطيعها الا الكتاب النادرون الذين يدركون أن القارئ لا يقرأ لهم فحسب، بل يقرأ بين السطور، ويشعر بوجودهم وسماتهم في كل حرف قد قيدوه على الورق .
حين تقرأ قصص سعد تشعر وكأنك في حضوره، يقودك بين المعاني، كأنما يدعوك للتفكير في تجاربه السياسية والنضالية، عبر هذه القصص القصيرة التي تختصر الزمن والمسافات، وتربط بين الأجيال. وكلما قرأته اكثر، كلما قد تجده يذهب بك في رحلة مختلفة عن الرحلة السابقة ،يقع هذا بصدد نفس القصة،انها قصص شديدة المحال حقا .
إنك تقرأ لسعد ، وانت ترى دائما في خلفية القصة ظله ومساره وشخصيته.
لقد اختار هذا الأديب العائد القصة القصيرة والقصيرة جدا، لأنه اراد ان يختصر، ان يلخص لنا تجربته، ويمدنا بسيرة فكرية ونضالية غير ذاتية له عبر قصصه .ولكنه، غير مستبد ،يترك لنا أن نفهم منها على قدر استعداداتنا و مؤهلاتنا.
أعتقد أن نضجه الفكري المبكر جعله ينأى منذ البداية عن الرواية ،وإطناب الرواية . و أنه حين تقدم في التجربة ،وكتب قصصا في سنة 2020 ,اذا بها تقصر أكثر، كأنما يعلن بهذا القصر أنه استوى أكثر وأنه انتقل الى مقام أعلى في كتابة القصة،مقام يتكثف فيه المعنى . ألم يقل الصوفيون، إنه كلما اتسع المعنى، ضاقت العبارة.
وقع هذا لسعد ،وقد قطع اشوطا بعيدة في عالم السياسة ،ولذلك نظن انه مخطئ جدا من يقول إن السياسة والأدب مجالان متناقضان أو متوازيان ، سعد العلمي قد أثبث انهما يتقاطعان في بعض النفوس المرهفة،و لدى بعض الاقلام السيالة.
فالسياسة، بحركيتها العنيفة وتقلّباتها واضطرابها ، غالباً ما تُصبح الخلفية التي يُعاد فيها تشكيل وعي الأديب، وتنضج فيها رؤاه، بل وتُخلَق فيها أعظم أعماله.
من هذه المجموعة نستشف ان السياسة قد عركت الأدب عند سعد العلمي ، بما تطرحه من قضايا وجودية، كالقمع، الحرية، العدالة، الهوية، والانتماء.بهذا المعنى تكون السياسة قد دفعت أديبنا هذا دفعًا نحو إعادة النظر في ذاته، وفي مجتمعه.
سعد العلمي في مجموعته ليس مجرّد كاتب حكايات، بل هو شاهد على عصره، وناقد لتاريخه، ومؤرّخً بالقصة لوجدان الشعب المغربي .
اننا نلاحظ بالمناسبة كذلك أن كثيرًا من الروائيين الكبار لم يظهروا على الساحة الأدبية إلا في سنّ متقدمة، غالبًا بعد الستين. هذا ليس مصادفة. وهو معيار اعتمده شخصيا لانتقاء قراءاتي في القصة والرواية . لأن الأديب لا يُنتج أدبًا عظيمًا إلا بعد أن يمرّ بتجربة سياسية أو اجتماعية تُهشّم نظرته الساذجة للعالم، وتُجبره على إعادة بنائه من جديد عبر الكتابة.
فغالبًا ما تكون الكتابة في هذه المرحلة نوعًا من "الاعتراف"، أو "التصفية" التي يصل فيها الكاتب إلى ذروة الوعي السياسي والإنساني.مثال:
نجيب محفوظ، الذي لم يكتب ثلاثيته الخالدة بين القصرين وقصر الشوق والسكرية إلا في منتصف عمره، بعد أن خبر ثورة 1919 وتبدلات الحياة في مصر. لم يكن ليكتبها بتلك العمق لو لم يعش التحولات الكبرى في السياسة والمجتمع.
السياسة تُنضج و لا تُفسد،بينما السياسي يُمكن أن يُفسد، لكن السياسة – كتجربة وجودية – تنضج الأديب. تُمزّق براءته، وتدفعه ليُواجه الأسئلة الأصعب. من نحن؟ إلى أين نمضي؟ ماذا تعني الحرية؟ هذه الأسئلة لا يطرحها إلا أديبٌ خَبِرَ مرارة التحوّلات، وشهد سقوط الشعارات وتهاوي الاحلام الوردية .
السياسة كانت الرحم الذي تم فيه تخلق وولادة الأديب سعد العلمي . هي لم تظهره فقط، بل صقلته أيضًا، ومنحته مادته الأدبية الخام وسردياته .
مااكثر هذه المواد الأدبية الخام عند سعد العلمي وما أشد تنوعها وثراءها ،وما اخصب خياله .
في قصة الماتدور التي تعني القاتل بالاسبانية ،يصور كيف سيخر الثور بسيف المصارع ،تحت عاصفة من تصفيقات الحسان .هذا النص مستفز، لأنه يعري الطبيعة الانسانية وخصوصا تلك الجماهير التي تشجع الظالم ،وتصفق للمقاتل رغم معاينتها للعنف الواقع على الثور الذي يمثل الطرف الضعيف ،وهذا يشير إلى ثقافة الخنوع وحتى التشجيع على الظلم التي تميز بعض المجتمعات التي ترضخ لسلطة لاتنصفها،هذا النص هو مقالة عن الظلم وكيفية تدجينه للضعفاء وللمجتمعات التي تحتفي بالظالم وتبجله وتغض الطرف عن انتهاكاته سواء داخل الدول أو على مستوى الركح الدولي . في النص الذي يحمل عنوان "تعود" ،يحكي القصاص عن العصفور الذي لم يهتد لمغادرة قفصه ،رغم أن باب القفص قد فتح ،وهو كناية عن أولئك الذين يستمرأون البقاء على عبوديتهم ،سواء بفعل التعود عليها ،أو بفعل وقوعهم في حب الجلاد كما هو الحال في متلازمة ستكهولم ،أو لأنهم عبيد لايعون عبوديتهم ،وبالتالي يستحيل عليهم أن يفكوا اغلالهم .
يريد في هذه القصة أن يبرهن لنا على صدق المثل الذي يقول انك تستطيع أن تأتي بالفرس إلى النهر لكنك لاتستطيع أن تجبره على الشرب ،كانه يرمز إلى أن الشعوب التي طال انقهارها وانكسارها تألف هزيمتها ،فلا فائدة أن يحرق المناضل نفسه لينير الطريق لشعوب ترفض أن تتحرر أو لاتشعر بالحاجة للتحرر .
ختاما ،استطيع ان اقول :
ان قارئ هذه المجموعة القصصية، لن يفرغ منها إلا راضيا مغتبطا مبتهجا، والا راجيا بالخصوص أن يمتعه سعد العلمي من حين وحين بقصص أخرى تشبه هذه القصص التي تنبض بالعمق والإبداع،قصص تعكس هذه المرة نظرته الحالية للسياقات وللحياة والوجود