كتاب الرأي

قراءة في كتاب "إسبانيا الآن.."


"إسبانيا الآن.. تحولات المشهد السياسي الإسباني 2008-2023” هو آخر مؤلف للباحث في الشأن الإيبيري الأستاذ نبيل دريوش، ويقع في 235 صفحة من الحجم المتوسط، وهو صادر عن دار الفاصلة للنشر هذه السنة من مطبعة المعارف الجديدة.



بقلم: عبد الجبار الرشيدي

ويشكل الكتاب بحق قيمة معرفية مهمة، يرصد خلاله المؤلف مختلف التطورات والتحولات السياسية التي عرفتها إسبانيا منذ سنة 2008، حيث وظف في ذلك الباحث المنهج التاريخي والمنهج التحليلي بأسلوب سهل ممتنع، ينتقل بك عبر مختلف التضاريس السياسية والأحداث والوقائع في تسلسلها، متوقفا على أدوار الفاعل السياسي وصانع القرار، وتأثيرات الأزمة الاقتصادية والاجتماعية بإسبانيا على المشهد السياسي والانتخابي، بالإضافة إلى انعكاسات الصراع الهوياتي والثقافي داخل إسبانيا على المشهد السياسي والمؤسساتي وعلى الاستقرار داخل هذا البلد بشكل عام.


ومن هنا، فالكتاب يشكل عصارة بحث يؤرخ للزمن السياسي الإسباني لمدة 15 سنة لفهم حقيقة ما جرى ما بين 2008 و2023، من خلال محاولة الكاتب تطويع مختلف الوقائع والأحداث السياسية وتفكيكها وتفسيرها، ووضعها في سياقاتها العامة، وتفاعلاتها وتأثيراتها على المؤسسات وعلى المسار الديمقراطي بإسبانيا بشكل عام.


وعندما تكون بين ثنايا الكتاب يدرك القارئ أن هناك تشابها كبيرا بين أسلوب المؤلف نبيل دريوش وبين أسلوب الراحل محمد العربي المساري، من حيث رشاقة الكتابة والأسلوب، وموجز العبارات الدالة، والقدرة على الاستنتاج الرصين والقيام بالتحليل بطريقة مميزة. ولعل ذلك راجع إلى تأثر الكاتب بمحمد العربي المساري الذي كان أحد الموجهين الأساسيين في الأبحاث الأولى في العلاقات المغربية الإسبانية التي قام بها نبيل دريوش.


وقد تفوق الكاتب في رسم تضاريس الجغرافية السياسية الإسبانية، الثابت منها والمتحول، بشكل يجعلك قريبا من الأحداث ومتفاعلا معها، مدركا للخلفيات التي تحكمت في مواقف الأحزاب السياسية إزاء التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي عرفتها إسبانيا، وانعكاسات ذلك على اختيارات الناخبين في مختلف الاستحقاقات الانتخابية التي عرفتها إسبانيا.


لذلك، فالكتاب له قيمته العلمية، حيث نجد أن الباحث تعقب مجمل التفاعلات وتمظهرات الصراع السياسي وتطوراته المختلفة وأهم الفاعلين فيه والعلاقات الجدلية بين الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي عرفتها إسبانيا، وتأثيراتها على الحقل السياسي، وبروز أحزاب سياسية جديدة ونخب جديدة بخطابات شعبوية قريبة من الشارع ومن العاطفة العامة، حيث كان الفضاء العام لإسبانيا في السنوات الأخيرة مجالا مفتوحا للصراع السياسي، ما بين اليمين المتطرف واليسار المتطرف وبينهما الأحزاب التقليدية لإسبانيا الحزب الشعبي والحزب الاشتراكي العمالي التي وجدت نفسها في مأزق حقيقي بفعل تراجع نفوذها، وارتهان مصيرها داخل المؤسسات بضرورة إقامة تحالفات مرغمة مع الأحزاب الصغرى الجديدة.


الكتاب يرصد مسار كيف خسر الحزبان الرئيسيان في إسبانيا: الحزب الشعبي والحزب الاشتراكي امتدادهما الشعبي بفعل تداعيات الأزمة الاقتصادية لسنة 2008، وكيف أرخت هذه الأزمة بظلالها على مستوى عيش المواطنين من خلال أزمة البطالة، وأزمة الرهون العقارية، وارتهان القرار الاقتصادي الإسباني بتداعيات ما يجري في بورصة وول ستريت بأمريكا.
 

وفي سياق كل هذا، يعالج الكاتب نبيل دريوش صعود الحركات الاحتجاجية في إسبانيا والتي جاءت على أنقاض الأزمة الاقتصادية وتداعياتها المؤلمة على الحالة الاجتماعية للإسبان، بدءا من حركة 15 ماي 2011 أو حركة الغاضبين ثم بعدها تأسيس حزب بوديموس الذي نهل من أفكار الحركة وحولها من فضاء الغضب الشعبي إلى فضاء للتعبير عن التغيير السياسي برئاسة بابلو أغليسياس، مسجلا أن الولادة الحقيقية لهذا الحزب كانت مع الانتخابات الأوروبية التي جرت في 25 ماي 2014، حيث فاجأ هذا الحزب جميع المراقبين بحصوله على 5 مقاعد في البرلمان الأوروبي. ويرصد الباحث تفاصيل النشأة الأولى لهذا الحزب وتفاعلات الأحداث داخله وأهم الفاعلين فيه وكذا علاقاته بالشارع وبالأحزاب التقليدية والمتحكمين بمفاصل صناعة القرار بإسبانيا.


الانتخابات التشريعية 20 دجنبر 2015 شكلت حسب الباحث نهاية القطبية الحزبية التي تكرست منذ 1982 بين الحزبين الشعبي والاشتراكي، حيث حصل حزب بوديموس على 69 مقعدا وحل في المرتبة الثالثة وراء كل من الحزب الشعبي الذي فقد أغلبيته المطلقة وحصل على 123 مقعدا والحزب الاشتراكي الذي عرف تراجعا كبيرا بحصوله على 90 مقعدا وفقدانه 20 مقعدا مقارنة مع انتخابات 2011.


ويقف الباحث على تفاعلات التحالفات الحزبية من أجل تشكيل الحكومة الإسبانية، ثم بداية الصراع داحل حزب بوديموس مع انتخابات التشريعية المعادة لسنة 2016، وتفجر بعض الفضائح المالية والمتعلقة بتمويل حملة بوديموس، وبعض مظاهر اغتناء قادة الحزب.


لقد كانت هناك أسباب ذاتية وأخرى موضوعية عجلت بتحجيم تطلعات حزب بوديموس، الذي اكتفى في النهاية بدعم حكومة بيدرو سانشيز دون أن يشارك فيها.


ويرصد الكاتب البوادر الأولى لنشأة حزب سومار بمبادرة من جولاندا دياث، النائبة الثانية لرئيس الحكومة الإسبانية وزيرة العمل والاقتصاد الاجتماعي، ومشروعها السياسي الجديد للمجتمع: سومار من أجل توحيد أصوات اليسار.


ثم يقف الباحث على تشكل حزب سيودادنوس كجزء مهم من تضاريس السياسة الإسبانية، حيث يرصد الجذور الأولى لنشأة هذا الحزب، بإقليم كاطالونيا متوقفا على السياق السياسي الإقليمي المرتبط بتداعيات السياسات اللغوية والثقافية والهوياتية بكاطلونيا، كحزب مُعاد لفكر الأحزاب القومية بكاطالونيا.


ويرصد الباحث التطورات التي عرفها هذا الحزب، وانتقاله من مجرد حزب إقليمي إلى حزب وطني ومختلف النتائج التي حققها في الانتخابات المحلية والجهوية والوطنية والأوروبية، والصراعات السياسية والحزبية التي خاضها الحزب والتحولات التي طرأت على إيديولوجيته ومواقفه، وصراع أجنحته الداخلية، وكيف تراجع هذا الحزب في المشهد السياسي بعد الصعود الظرفي الذي حققه، قبل أن تنطفئ أضواؤه بشكل نهائي في عام 2023.


كما توقف الكاتب على مسيرة حزب فوكس وسياق التأسيس وتداعيات مؤتمر الحزب الشعبي بمدينة فلنسية، الذي سيشكل محطة تنظيمية فارقة في نشأة حزب فوكس من الجناح الغاضب من ماريانو راخوي، حيث يرجع الباحث تأسيس حزب فوكس إلى السياق الداخلي المرتبط بالخلافات والتوازنات بين مختلف أجنحة الحزب الشعبي. كما وقف على مشاركة الحزب في مختلف الاستحقاقات الانتخابية التي عرفتها إسبانيا منذ ماي 2014، وكذا على الشخصيات المؤثرة داخل حزب فوكس، والجذور الإيديولوجية والخطاب السياسي لهذا الحزب.


ويعالج المؤلف في الشق الأخير من كتابه كيف تحول الخطاب الهوياتي القومي إلى المطالبة بانفصال إقليم كاطالونيا ومحاولة إعلان قيام دولة كاطالونيا المستقلة، ومختلف التداعيات والأحداث المرتبطة بهذا الموضوع، وتنظيم الاستفتاء وما خلفه ذلك من أزمة حقيقية داخل إسبانيا ومن تهديد لوحدة إسبانيا، وما رافق ذلك من نقاش دستوري وقانوني، ومن تظاهرات سياسية في الشارع الإسباني، قبل أن يتم حسم هذه الأزمة لصالح الشرعية الدستورية التي انتصرت لوحدة إسبانيا، ومن ثم بدأ مسلسل المحاكمات التي تعرض لها قادة الانفصال، ولجوء أحد مهندسي الانفصال كارليس بوجديمونت رئيس الحكومة الإقليمية لكاطالونيا إلى بلجيكا طالبا اللجوء السياسي.


ويقف الكاتب على الدور الذي قامت به الدولة الاسبانية لمواجهة الانفصال، خاصة مع تفعيل الفصل 155 من الدستور واللجوء إلى المحكمة الدستورية، وكذلك على مستوى التصدي الفعلي على الأرض لأعمال الحركة الانفصالية، وتحريك المتابعات القضائية في حق قادة الانفصال، الذين تمت إدانتهم من قبل القضاء الإسباني. لقد انتصرت في الأخير السيادة والوحدة الوطنية لإسبانيا، وتم وأد جميع محاولات الانفصال التي قام بها الكاطالان.


لكن هذه الأزمة كما يستنتج الكاتب خلفت جروحا عميقة في الجسد الإسباني أعادت إلى الأذهان شبح حرب الأهلية التي عرفتها إسبانيا في الثلاثينيات من القرن الماضي، قبل أن يبدأ رئيس الحكومة بيدرو سانشيث في نزع فتيلها ومحاولة إحداث انفراج سياسي عام بإصداره لقرار العفو عن بعض قادة الانفصال؛ وهو ما اعتبر إقرارا للمصالحة مع كاطالونيا، ومحاولة لإطلاق مرحلة جديدة من العلاقات بين إسبانيا وإقليمها الكاطالاني.


لكن الباحث لا يتردد، في خلاصة كتابه، في القول إن الخلاف سيستمر مستقبلا حول ماهية إسبانيا وسيتواصل النقاش الحاد عبر لعبة القانون ومتاهات صناديق الاقتراع وبنود الدستور ومنبر البرلمان وفي أستويوهات وسائل الإعلام وفي الساحات العامة.

Sara Elboufi
سارة البوفي كاتبة وصحفية بالمؤسسة الإعلامية الرسالة مقدمة البرنامج الإخباري "صدى الصحف" لجريدة إعرف المزيد حول هذا الكاتب



الاربعاء 10 يوليوز 2024

في نفس الركن
< >

الاثنين 2 ديسمبر 2024 - 11:24 فرق تسد؟!!!


              














تحميل مجلة لويكاند






Buy cheap website traffic