كتاب الرأي

في ذكرى المطالبة باستقلال المغرب : 11 يناير 1944 - 11يناير 2025




محمد توفيق القباج

 في مثل هذا اليوم التاريخي الوطني في 11 يناير 1944 حلت الذكرى الواحدة والثمانين لتقديم عريضة الاستقلال التي كانت منطلقا حاسما لانعتاق المملكة المغربية من ربقة الاستعمار الفرنسي والاسباني في 19 نوفمبر 1955 والذي تم بفضل الله بعد العودة المظفرة للمغفور له جلالة الملك محمد الخامس من منفاه بأنتسربي بمدعشقر في يوم الأربعاء 16 نوفمبر 1955.

 ومن أجل التعريف بالمراحل التي واكبت تهييئ وثيقة الاستقلال واخراجها الى الوجود، ارتأينا، حرصا منا على احياء تلك الملحمة المجيدة واطلاع الجيل الجديد على ما بذله المناضلون الوطنيون من تضحيات جسيمة في سبيل تحقيق تلك الأمنية الغالية في الحرية والاستقلال.

كان على رأس من نطق بكلمة "الاستقلال"، بشهادة من كانوا من بين المشاركين البارزين في تهييئ وثيقة الاستقلال، الأستاذ الحاج أحمد بلافريج، بل، كما جاء على لسان أحد المقربين اليه المرحوم الأستاذ امحمد بوستة، كان، رحمه الله، "هو أول من نطق بكلمة الاستقلال ".
 
 كان أحمد بلافريج، يقول الأستاذ أبوبكر القادري "في مقدمة من آمنوا بأن ساعة المطالبة بالاستقلال، وإزالة كابوس الاستعمار قد حانت،، وأن الواجب يقضي أن نضع قضية استقلال المغرب في الملف الدولي، وأن الجميع يجب أن يستعد لخوض المعمعة، مهما كانت النتائج، وكيفما كانت التضحيات التي يتطلبها المطلب الغالي"
 
 بعد اقتناع الجميع بتحليلات الأستاذ أحمد بلافريج حول الوضع الدولي الذي يشجع على المضي، قدما، نحو المطالبة بالاستقلال، وتأكدهم من استعداد السلطان لذلك الأمر، عكف قادة الحركة الوطنية على تحرير الوثيقة، والاتفاق على من سيوقع عليها، وكيف سيقع تقديمها، ولمن ستقدم، وعلى جميع الترتيبات الضرورية لإنجاح العملية. كانت الاجتماعات تتوالى يوميا، تارة بمنزل بلافريج بحي الليمون، وتارة بمنزل السيد محمد اليزيدي، بحي ديور الجامع، وتارة أخرى بمنزل الفقيه محمد غازي، بنفس الحي.
 
قبل الشروع في "تحديد صيغة مشروع العريضة، على الورق، يروي عبد الرحيم بوعبيد في مذكراته، تم اقتراح تسمية هذا التجمع "حزب الاستقلال"، وأعتقد أن الاقتراح جاء من أحمد بلافريج، الذي استند فيه، ربما، إلى الحزب الذي كان يحمل نفس الإسم في العراق، وهو، باختصار إسم يتضمن الهدف الرئيس، الذي يتم التجمع عليه. وقد أبدى المهدي، وأنا شخصيا، بعض التحفظات...استقلال نعم، ولكن لماذا كلمة حزب؟ ف"جبهة وطنية"، أو أي صيغة أخرى، ستكون أكثر ملاءمة لبنيته ومكوناته المختلفة." بالنسبة لهؤلاء، فإن تكوين تجمع لا يتسم، بتاتا، بالانسجام، من شأنه أن تقع فيه انقسامات. "فالانشقاق عن "جبهة"، يقول بوعبيد، سيكون له تأثير سياسي أقل" من الانعكاسات التي يمكن أن تمس "وحدة منظمة تسمى حزبا". لكن وقع، في الأخير، تجاوز هذه الملاحظات، وتمت المصادقة على الإسم المقترح من أحمد بلافريج
 
كان على أعضاء الطائفة، وكلهم من مؤسسي وقدماء الحزب الوطني، تحديد الإجراءات والمبادرات الواجب اتخاذها، من أجل ضم الشخصيات أو الاتجاهات السياسية إلى التنظيم الجديد. لكنهم كانوا أمام اختيار صعب، "وهو أن حزبهم، يقول السيد عبد الرحيم بوعبيد، كان مطالبا بأن يصبح مجرد مكون من مكونات الحركة من أجل الاستقلال. صحيح أنه سيبقى المكون الأساسي من خلال حضوره الفعال والنشيط في كل مناطق البلاد، إلا أن الامتياز التاريخي للعمل الذي سيتم الإقدام عليه، سيقتسم مع اتجاهات أو عناصر أخرى، كانت حتى ذلك الوقت من دون انتماء سياسي، أو من دون التزام".
 
فقد كانت لدى بعض أعضاء الطائفة ملاحظات معقولة في هذا الشأن، خاصة إذا رجع المرء إلى الماضي القريب، حيث "كانت التجربة المعاشة، منذ سنوات 1934-1937، حية ما تزال، لتذكر الجميع بالانشقاقات، والمنافسات الشخصية، وأحيانا بتخلي البعض عن كل التزام
 
لكن تدخلات الحاج عمر بن عبد الجليل، والفقيه محمد غازي، على الخصوص، كانت جد مقنعة، بالنظر إلى موقف السلطان سيدي محمد بن يوسف الذي "يقبل الانخراط بكل سلطته، وبكل الصفات التي يتمتع بها، كمؤتمن على السيادة الوطنية، في المعركة".
 
وهذا الحدث، يروي السيد بوعبيد، ربما، لم يسبق له مثيل في الحركات الأخرى، في البلدان العربية. والسلطان بحكم موقعه، لا يمكن أن يدخل المعركة على رأس حزب وحيد، وهو حزبنا، مهما كان تفوقه وإخلاصه. فهو لا يمكن أن يكون سوى موحد لكل الاتجاهات، حتى ولو كانت أقل تمثيلية. فنضالنا من أجل الاستقلال سيكون، منذ الآن، تجسيدا مسبقا للملكية الدستورية والديمقراطية، وهو الأمر الذي يتطلب تجميعا لأوسع القوى. وقد تمت الموافقة أخيرا، وبالإجماع، على هذا التصور، بالنظر أساسا إلى التزام السلطان بخوض المعركة على رأس الحركة الوطنية
 
 في إحدى اجتماعات الطائفة، فاجأ الأستاذ بلافريج إخوانه بمبادرة سديدة، كشفت عن "منقبة أخرى لأحمد بلافريج، يقول الأستاذ القادري، تنم عن روحه الوطنية الصميمة، وتجرده عن الحساسيات الأنانية، في القضايا العليا للوطن. لقد قال لنا، ذات يوم، ونحن مجتمعون، بمنزل الفقيه محمد غازي، أن الواجب يفرض علينا ألا نقدم على عمل وطني كبير، مثل المطالبة بالاستقلال، دون أن نفكر في إخبار أخ من إخواننا، لا يوجد بيننا الآن لأنه لا زال يقاسي محنة النفي، والإبعاد، والإقامة الإجبارية (في إتزر، بالأطلس المتوسط)، وأعني به الأخ محمد بن الحسن الوزاني. إنه، يقول بلافريج، إذا اختلف معنا في الرأي وأنشأ حركة خاصة به، وهي الحركة القومية، فإن مطلب الاستقلال، مطلب كل وطني، يجب أن تتضافر عليه جهود كل المواطنين. ويجب أن يشعر "الوزاني" بما قررنا القيام به، بطريقة أو بأخرى"
 
كان، طبعا، حاضرا في ذهن أعضاء الطائفة، أن ابن الحسن الوزاني كان قد أقدم، بعد انشقاقه من "كتلة العمل الوطني"، على إنشاء حزب أطلق عليه إسم «الحركة القومية". كانت الظروف التي وقع فيها ذلك الانشقاق، فعلا، مؤلمة، ومحرجة لأعضاء الحركة الوطنية، لكن غالبية "أعضاء "الطائفة"، يقول بوعبيد، كانوا يكنون له تقديرا كبيرا، بحكم ماضيه الوطني الرائد، وقدراته الكبرى على العمل، وإخلاصه للقضية الوطنية"، غير ناسين نشاطه الوطني ضمن الشباب، أمثال أحمد بلافريج، وعمر بن عبد الجليل وغيرهما عند التحاقهم بباريس للدراسة، مستبسلين في سبيل حشد الدعم للقضية المغربية من طرف الأحرار الفرنسيين، وكذلك مساهمته في تحرير عدة مقالات بمجلة"Maghreb"  "مغرب" ، التي أنشأها أحمد بلافريج، سنة 1933. "إلا أنه، يقول بوعبيد، بحسب هؤلاء (أعضاء "الطائفة")، كان ذا مزاج لا ينسجم مع مقومات العمل الجماعي. فقد كان، داخل "كتلة العمل الوطني" القديمة، يعتبر أن زعامة الحركة من حقه، ولم يكن يقبل أي نقاش حول هذا الموضوع. هل سيقدم مرة أخرى شرطا لموافقته، أن يمنح له المركز الأول في القيادة، كحق من حقوقه"؟
 
على كل، لقد أخذ مجموع أعضاء "الطائفة" بالاقتراح النبيل الذي بادر به أحمد بلافريج، و"اتخذ القرار، إذا، بإرسال مبعوث إليه، لإخباره، وطلب مشاركته، كناطق باسم حزبه، الذي سيكون بذلك شريكا في تأسيس حزب الاستقلال، وسيرتبط القرار النهائي الواجب اتخاذه برد فعله".
 
"وهكذا، يقول أبو بكر القادري، تقرر أن يقع البحث في الطريقة التي يبلغ بها الخبر إلى المرحوم الوزاني، سواء عن طريق أصحابه المنتمين لحزبه، أو عن طرق أخرى. وبالفعل وقع اتصال بالأخ السيد محمد الغزاوي، الذي كانت له حافلات عمومية، تأخذ المسافرين إلى "إيتزر" يوميا، واقترح عليه أن يوظف معه، كمراقب يراقب التذاكر، ويصحب الحافلة التي تأخذ المسافرين إلى "إيتزر"، أحد الشبان الغيورين ليؤدي مهمة الاتصال بابن الحسن في منفاه. فقبل الأغزاوي الاقتراح، وكان مطلعا على الغاية التي من أجلها سيوظف هذا الموظف، الذي كان هو الشهيد المرحوم الحسن بن شقرون، وهذه الغاية هي أخذ الوثيقة التي نطالب بها الاستقلال، وتمكينه منها للتوقيع عليها.
 
كان هذا هو القرار الذي اتخذناه، وتكلفت بتطبيقه جماعة فاس. وذكر لي الإخوان أن الحسن بن شقرون التحق فعلا بموظفي الغزاوي، وصار يسافر في الحافلة الذاهبة إلى "إيتزر" كمراقب، واغتنم الفرصة المناسبة (أواخر ديسمبر 1943)، فاتصل بالمرحوم الوزاني وأطلعه على ما قرره إخوانه من المطالبة بالاستقلال واقتراحهم أن يكون من جملة الموقعين على العريضة هو وأصحابه.
 
لكن المرحوم الوزاني لم يكن، على ما يظهر، مقتنعا بمغامرة المطالبة بالاستقلال، فلم يقبل ما عرض عليه"، مؤكدا أنه لا يمكن أن يساهم في عمل، في وقت كان فيه تحت الإقامة الجبرية، ولا يمكنه، بالتالي، أن يتوفر على معطيات للحكم على ذلك،"وامتنع أصحابه بدورهم من التوقيع على العريضة الأساسية، أولا حتى يتصلوا بزعيمهم. ثم بعد ذلك، قدموا بدورهم عريضة تأييدية، بعدما قدمنا وثيقتنا بيومين أو ثلاثة أيام

"حتى المساعي التي تم القيام بها لدى "أنصار" الوزاني، أو "المتعاطفين" معه للمشاركة في المشروع، لم تأت بأي نتيجة. كان ذلك، ربما، بسبب عدم وجود تنظيم يمكنهم من اتخاذ قرار في هذا الشأن، في غياب زعيمهم، إلا ما كان من أمر محمد بن العربي العلمي الذي قبل أن يكون "من بين الموقعين على العريضة، (كمستقل)، قبل أن يتبين فيما بعد، أثناء تأسيس حزب الشورى والاستقلال، سنة 1946، أنه كان أحد الأنصار النشطين لمحمد بن الحسن الوزاني"
 
كان بود أعضاء "الطائفة" أن يتصلوا، كذلك وقبل كل شيء، بالأستاذ علال الفاسي، الذي كان قد نفي، سنة 1937، من قبل المقيم العام، الجنرال نوغيس، إلى قرية مويلا Mouila، بالغابون. يقول أحمد بلافريج فيما كتبه في مقاله السالف الذكر، عن علال الفاسي:"لم يكن لدينا، منذ سنة 1937، أي وسيلة لإجراء الاتصال بعلال، في منفاه السحيق " بالرغم من المحاولات المتكررة لإطلاعه على المشروع، الذي لم يكن له به أي علم.
 
لكن الإخوان، في "الطائفة"، كانوا على يقين بأنه لن يتخلف أبدا عن تأييد ما كانوا يقومون به من مساعي للمطالبة بالاستقلال، بالرغم من أنه لم يكن باستطاعته أن يكون من بين الموقعين على العريضة، خاصة وأنه لم يعد من منفاه إلى المغرب إلا في أواخر سنة 1946، تلك السنة التي عاد فيها، كذلك، من منفاهما محمد بن الحسن الوزاني، وأحمد بلافريج.
 
بعد اتفاقهم على جميع جوانب ملف المطالبة، بدأ قادة الحزب الوطني مرحلة الاتصالات السرية المكثفة، مع جلالة السلطان سيدي محمد بن يوسف، قدس الله روحه، تارة بمنزل أحد الثقات، وفي أغلب الأحيان، في دهليز من دهاليز القصر، يتم وصول ودخول بعض من أعضاء "الطائفة"، متسللين إليه، في مشهد رائع، يعجز عن وصفه القلم. كان أحمد بلافريج، والحاج عمر بن عبد الجليل، ومحمد اليزيدي، والفقيه محمد غازي، وأحيانا الأستاذ محمد الفاسي، هم الذين كانوا يلتقون مع السلطان سيدي محمد بن يوسف، لتدارس مشروع المطالبة بالاستقلال، في سرية تامة، وفي غسق الليل، وقد أسدل الليل دثاره.
 
وكان اللقاء يطول، في بعض الأحيان، تحت رئاسة السلطان، إلى وقت انبلاج الفجر. وكانت الاستدعاءات تقتصر، في بعض الأحوال، على الفقيه غازي وأحمد بلافريج الذي كان سيدي محمد بن يوسف يكن له كامل التقدير، ويتبنى الكثير من آرائه النيرة والصائبة.
 
تـصوروا مشهد تلك الاجتماعات الحميمة، التي كانت تمتد ساعات طوالا إلى أن يكاد الفجر أن ينبلج، وأنت ترى ملكا شجاعا، قوي الإيمان، متواضعا يتدارس، مع ثلة من أبناء شعبه المناضلين، نص وثيقة المطالبة بالاستقلال،  ويمحصها بإمعان، مهتما بتفاصيل الإعلان عنها، وبمن سيقوم بمهمة تقديمها، وأسماء أعضاء الوفود المكلفة بذلك، والحرص على تحديد يوم تقديم الوثيقة الذي ارتآه أن يكون يوم الثلاثاء 11 يناير سنة 1944، الموافق للرابع عشر من شهر محرم الحرام عام 1363، لأن يوم الثلاثاء هو اليوم الذي يستقبل فيه "مستشار الحكومة الشريفة" الفرنسي، الذي كان صلة الوصل بين جلالته والمقيم العام.
 
كان جلالته يتصرف في اجتماعاته مع أعضاء "الطائفة"، وكأنه واحد منهم، وعضو في جماعتهم، إلى درجة أنه طلب منهم أن يكون، بينه وبينهم، كممثلين "للطائفة"، عهد، أو ميثاق، لا تنفصم عراه أبدا، وذلك بأن يأخذ قسما منهم، وأن يقسم لهم بدوره. تم بعد ذلك أداء القسم على نسخة من المصحف الكريم، "فأقسمنا، يقول المرحوم الأستاذ محمد الفاسي، بأن نخلص لله وللوطن وللملك، وأن نحافظ على السر، وعلى ألا نقدم على عمل إلا بعد مشاورته وموافقته، وأقسم هو بدوره في نفس المصحف.
 
بعد هذا اللقاء الأخير مع السلطان، تم تحرير النص النهائي المتفق عليه الذي وقع عليه ست وستون شخصية وطنية، خمسون منهم من أعضاء "الطائفة"’ وهو الجناح السري للحزب، وكان من بينهم من تخرج من ثانوية مولاي يوسف بالرباط، وتسعة من قدماء ثانوية مولاي إدريس بفاس، وثلاثة من ثانوية أزرو، وأربع شخصيات حرة. ومما تجدر الإشارة إليه، كما جاء في صدر الوثيقة، أن المطالبة بالاستقلال تمت من طرف "حزب الاستقلال"، (كما اقترح أحمد بلافريج)، الذي يضم أعضاء الحزب الوطني السابق، وشخصيات حرة.
 
يقول أحمد بلافريج في مقاله، بالفرنسية، السالف الذكر، "علال الفاسي.....": "نصحنا السلطان، خلال اجتماعاتنا السرية مع جلالته، بالاتصال ببعض قواد المملكة، ومحاولة جلبهم وكسب مساندتهم. وهكذا أسند إلي إخواني، في ديسمبر 1943، مهمة القيام بمقابلة الباشا الجلاوي بمراكش. كان هذا الأخير منشغلا "بالضمانات" التي يمكننا أن نحصل عليها، معتقدا، من دون شك، أن الأمريكيين يدعموننا بعد انعقاد مؤتمر أنفا، بداية سنة 1943. على كل حال فقد قام المراقب العسكري بطردي من مراكش، بعد ظهر نفس اليوم، من دون أن أحصل على شيء من الجلاوي".
 
"في يوم الثلاثاء 11 يناير 1944، وهو اليوم الذي كان متفقا عليه لتقديم عريضة المطالبة بالاستقلال، انطلقت وفود ثلاثة، من منزل المرحوم محمد اليزيدي، كان أولها، تحت رئاسة المرحوم الحاج أحمد بلافريج، الذي كان عليه تقديم الوثيقة لجلالة السلطان سيدي محمد بن يوسف. فكانت مناسبة لتبادل كلمات مؤثرة، أعرب فيها جلالته عن سعادته وتقديره لهذه المبادرة التاريخية، قائلا بأنه سيعرضها على أنظار أعضاء المخزن، والسلطات العليا لدراستها، وأخذ ما يجب أخذه من قرارات في هذا الشأن.
 
 وبالفعل استدعى جلالته بعض المندوبين، وهم وزراء ذلك الوقت، وبعض الشخصيات العلمية والدينية، وعرض عليهم نص الوثيقة، ذاكرا أنه موافق على فحواها، لكنه يريد معرفة آرائهم في الموضوع. إثر ذلك اتفق على تكوين لجنة مؤلفة من وزير العدل، الشيخ محمد بن العربي العلوي، ومندوب الصدر الأعظم في التعليم، السيد الحاج أحمد بركاش، ورئيس التشريفات السيد محمد المعمري، للاتصال، من جهة، باللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال، ومن جهة أخرى، بالإقامة العامة، للتباحث في مضمون الوثيقة، واتخاذ ما يلزم في شأنها.
 
"الوفد الثاني الذي كان برئاسة السيد امحمد الزغاري، قدم نص وثيقة الاستقلال للوزير المفوض لدى الإقامة العامة، السيد مارشال، مع رسالة بعثتها اللجنة التنفيذية إلى المقيم العام كابرييل بيوGabriel Puaux، الذي عينه الجنرال دوكول، في 5 يونيو 1943، مندوبا عاما لفرنسا في المغرب.
 
الوفد الثالث، برئاسة الشهيد المهدي بن بركة، الذي قدم الوثيقة، على التوالي، إلى كل من قنصل إنجلترا، وقنصل الولايات الأمريكية المتحدة. كان رد القنصلين غير مشجع، مبررين موقفهما بظروف الحرب التي تتطلب بذل كل الجهود، لضمان انتصار الحلفاء، ومن ضمنهم فرنسا"[[10]]url:#_ftn10 . 
 
بمجرد الإعلان عن الوثيقة، هب العديد من الوفود من جميع أنحاء البلاد إلى الرباط، لتقديم عرائض تأييد المطالبة بالاستقلال إلى جلالة السلطان، بالرغم من تهديدات السلطات الفرنسية، والوعيد باستعمال القوة العسكرية مقابل ذلك.
 
[1]أبو بكر القادري "مذكراتي....."  - كتاب "محمد الخامس، "سيرة وذكرى"


  أمام التأييد الشعبي العارم، لجأت السلطات الاستعمارية "إلى حث القواد المعادين على التوجه إلى القصر بالرباط، لحمل السلطان على الرجوع عن موقفه".
 
يروي الأستاذ شارل أندري جوليان، في كتابه "المغرب في مواجهة الإمبرياليات" بأن الجنرال دوكول "بعث الوزير المفوض بوزارة خارجية اللجنة الفرنسية للتحرير الوطني، روني ماسيكليRené Massigli وكلفه "بإعادة سيدي محمد إلى الصف".... ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل تعداه إلى ما جاء في خطاب ماسيكلي، أمام السلطان، في 28 يناير 1944، يذكره فيه، باسم الجنرال دوكول، "أن المغرب مدين لفرنسا بكل شيء"، متسائلا عما إذا كان المغرب، بمشاركته في المجهود الحربي، قد "بذل كل ما في استطاعته ليعيد لفرنسا ما منحت له ".
أما المقيم العام فكان أكثر وقاحة عندما لم يتورع، في أحد لقاءاته مع السلطان، من أن يشعر جلالته بضعف جانبه، عندما ألزمه، في محضره، بأن يعلن لوزرائه "بأن كلمة استقلال، ينبغي أن تختفي من القلوب والأفواه"، وأن يبلغ ذلك إلى الباشاوات والقواد، بواسطة رسالة من طرف الصدر الأعظم.
 
 لقد كان بلافريج، بشهادة أبي بكر القادري، في هذه التحركات كلها، هو قطب الدائرة، وروح حركتها، ولذلك اعتبره الفرنسيون المسئول الأول عن هذه الحركة المطالبة بالاستقلال، فلم تمض إلا نحو العشرين يوما على تقديمنا لوثيقة المطالبة بالاستقلال، حتى ألقي عليه القبض...".
 
كان ذلك في نفس اليوم الذي كان ماسيكلي يحاول، باسم دوكول، الحصول من السلطان على تبرئه من حركة المطالبة بالاستقلال، إذ أقدمت الشرطة العسكرية الفرنسية، ليلة 28 و29 يناير، على إلقاء القبض، بالإضافة إلى الأمين العام للحزب، الأستاذ الحاج أحمد بلافريج، وعلى نائبه الأستاذ محمد اليزيدي، وستة عشر آخرين من الشخصيات الوطنية، متهمة بلافريج، على الخصوص، بالتواطؤ مع العدو الألماني.
 
 يعقب السيد ش.أ. جوليان على ذلك بقوله "بأن التهمة فريدة من نوعها، ضد رجال لم يكونوا فرنسيين، فيما هناك أغلب الموظفين بالإقامة العامة، الذين كانوا بيتانيين (إشارة للمارشال بيتان المتعاون مع الألمان)، متحمسين ومتعاونين مع المحتل، ومع ذلك لم يقدموا للمحاكم"
 
"إلقاء القبض على الزعماء الوطنيين، كان الفتيل الذي أشعل نار الانتفاضة. فما أن ذاع الخبر حتى هبت الجماهير، عن بكرة أبيها، متجهة نحو "حي التواركة"، وأحاطت بالقصر، وهي تهتف بحياة السلطان سيدي محمد بن يوسف، وبالاستقلال، منددة باعتقال بلافريج واليزيدي، ومطالبة بإطلاق سراحهما. وازداد حماس الجماهير وتعالت الهتافات صاخبة عندما انضمت إليها أفواج من مدينة سلا، والتحقنا بها، نحن تلاميذ ثانوية مولاي يوسف.
 
أمام القصر، كان غليان الجماهير قد بلغ أوجه، إلى درجة أن سلطات الحماية اضطرت لإيجاد حل لتهدئة الأوضاع، وبتدخل من السلطان، بإطلاق سراح السيد محمد اليزيدي. أما بالنسبة للأستاذ بلافريج، فقد أبقي عليه رهن الاعتقال، لأنه، كما قال محمد المعمري، مدير التشريفات، مخاطبا الجماهير، "متهم بالخيانة، لأنه كانت له علاقات مع دول المحور". فما أن نطق المعمري بذلك حتى انقضت عليه الأيدي الهائجة، وأمسكت بتلابيبه، ومزقت ثيابه، ولم تتركه حتى أغمي عليه. في هذه الأثناء وصل الأستاذ اليزيدي، الذي حمله المناضلان الوطنيان، محمد المدور والسيتل العيساوي على أكتافهما، ليهدئ، بعض الشيء من روع الجماهير.
 
ثم التحق السيد اليزيدي والمناضلان بجلالة السلطان الذي أطل على الجماهير، وخاطبهم قائلا: "ها هو خديمنا السيد اليزيدي قد أطلق سراحه؛ أما السيد بلافريج فهو في كفالتنا، وسنختار له أحسن المحامين حتى تتحقق براءته، إن شاء الله، فسيروا، في حفظ الله، إلى المدينة، في هدوء، تحت قيادة السيد اليزيدي". وكانت الأمور ستتم بسلام، لولا أن القوات العسكرية الفرنسية تصدت للجماهير، التي كانت متجهة إلى المدينة، وإلى المسجد الأعظم، وحاولت منعها من المرور؛ فوقع ما وقع من عنف وضرب واعتقال واستعمال للأسلحة النارية، الشيء الذي أدى إلى استشهاد عدد من المواطنين العزل، وجرح الكثير منهم.
 
"استمرت، بعد ذلك، المظاهرات والمواجهات الدامية مع القوات الاستعمارية، في جميع أنحاء المغرب، وخاصة في فاس، التي عرفت العشرات من الذين استشهدوا أو جرحوا أو اعتقلوا؛ كما أقفلت كلية القرويين، وثانوية مولاي إدريس بفاس، وثانوية مولاي يوسف، ومدرسة امحمد جسوس التي احتلت من طوف الجيش الفرنسي، الذي عاث فيها فسادا وتخريبا. كما ألقي القبض على عدد من الزعماء الوطنيين، ونفي البعض منهم، وأعفي الموظفون الذين وقعوا على وثيقة الاستقلال".
 
بعد اعتقاله، في ليلة 28-29 يناير، من طرف السلطات الاستعمارية الفرنسية، ورفضها الإفراج عنه، بخلاف الأستاذ اليزيدي، كما سبق ذكره، بتهمة اتصاله ومحاورته المحور النازي الفاشستي، قررت إحالة الأستاذ الحاج أحمد بلافريج، أمين عام حزب الاستقلال، إلى المحاكم العسكرية، التي أخضعته للاستنطاق، لعدة أيام، وكبدته أشد المتاعب، رغم حالته الصحية التي كانت لا تدعو إلى الاطمئنان.
 
ولما لم تجد الإدارة الاستعمارية ما تثبت به التهمة التي حيكت له، مع العلم بأن بلافريج كان، على العكس من ذلك، مناوئا ومعاديا للنازية، حتى قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، سواء في كتاباته أو تحليلاته أمام إخوانه في الحزب، قررت الحكومة الفرنسية إبعاده ونفيه إلى جزيرة كورسيكا التي لبث فيها مبعدا حوالي ثلاث سنوات، بعد ما قضى بسجن "لعلو" بالرباط، عدة أيام.
 
يقول الأستاذ أبو بكر القادري، في هذا المضمار، "إن أنس فلا يمكنني أن أنسى، يوما ونحن معتقلون بسجن لعلو المذكور، عندما اتصل بي أحد الحراس الوطنيين، وخبرني بأن بلافريج يوجد في إحدى الزنزانات وحيدا فريدا، وأنه سيدبر لي لقاءا ولو خاطفا معه. وهكذا اغتنم الحارس المذكور إحدى الفرص المتاحة له، ففتح الزنزانة التي كنت فيها، ودعاني إلى أن أسير وراءه، على مهل، ففتح النافذة الصغيرة الموجودة في الباب، حيث أطللت عليه محييا ومتسائلا عن حالته الصحية، وما قاساه أثناء استنطاقه. فأجابني باقتضاب، على عادته، وذكر أن الاستنطاق كان متعبا، ومستمرا ليل نهار، وانفجرت شفتاه عن ابتسامة حلوة، وكأنه يقول: لابد من الثمن"
 
في الختام علينا التذكير بتلك الكلمات الصادقة والمؤثرة التي عبر فيها المغفور له الملك الحسن الثاني في حق أستاذنا وزعيمنا ورائدنا أحمد بلافريج بعد وفاته طيب الله ثراه قائلا:
      "إذا استحق أحد أبناء هذا الشعب التكريم والتنويه، فإن إسم الحاج أحمد بلافريج، رحمه الله وأثابه، يأتي عاليا على رأس قائمة المكرمين. فقد عرفنا هذا الرجل العصامي، منذ نعومة أظفارنا، عرفناه فأحببناه، وبادلنا هو حبا بحب أكبر، ووفاء بوفاء أعظم" 
 
 المرجع : كتاب "أحمد بلافريج، الرائد الأول للنضال الثقافي والإعلامي والسياسي من أجل الاستقلال"  - تأليف محمد توفيق القباج"  - ص. 238 - 251
 

 أبو بكر القادري "الوطني المنفتح....." 29 يناير 1990 جريدة "العلم" 2 فبراير 1990
 عبد الرحيم بوعبيد "شهادات وتأملات" ص. 28
عبد الرحيم بوعبيد "شهادات...."  ص. 27
عبد الرحيم بوعبيد "شهادات...."  ص. 27
أبو بكر القادري "الوطني المنفتح...."  29 يناير 1990 جريدة "العلم" 2.2. 90
 عبد الرحيم بوعبيد "شهادات..." ص. 28 - 29
 أبو بكر القادري "الحاج أحمد بلافريج...." ص. 101 - 102
 عبد الرحيم بوعبيد "شهادات...." ص. 29
 أحمد بلافريج "علال الفاسي نذير......"سلسلة الأفارقة ص. 50
 
 
 
 

Aicha Bouskine
عائشة بوسكين صحافية خريجة المعهد العالي للإعلام والاتصال، باحثة في العلوم السياسية وصانعة محتوى في إعرف المزيد حول هذا الكاتب



الاثنين 13 يناير 2025

              















تحميل مجلة لويكاند

Iframe Responsive Isolée





Buy cheap website traffic