كتاب الرأي

صلاح الوديع يكتب: أيها الضمير الكوني الإنساني


أيها الضمير الكوني الإنساني

وأنت تتأهب لإطفاء المصباح على منضدة سريرك كي تنام
أو تتأهب لمغادرة مقر سكناك
أو وأنت تتوجه إلى عملك
أو إلى حيث تقتني أغراض يومك
أو وأنت تنتظر الأوتوبيس أو تستقل سيارة أجرة
أو سيارتك كي تلتحق بانشغالات صباحك
أو مساحات مسائك



أو وأنت تجلس إلى كتبك في قاعات المكتبات

أو ترتاح على أريكة في مقهى 

أو يضمك بهاء قاعة سينما أو فضاء مسرح

أو تستعرض أمام مشاهديك على الهواء مباشرة رأيك في ما يقع في العالم 

مجتهدا كي تقنع مجادليك ومستمعيك

أو تجلس أمام الميكروفونات في الإذاعات وقنوات التلفزة 

كي تقول كلمتك التي تصل في اللحظة ذاتها للملايين

أو حينما يستجير بك صغار أبنائك من لسعة بعوضة

تذكر فلسطين: تذكر القدس وغزة ورام الله وجنين ونابلس وطولكرم ...

تذكر ونحن نخطو في بدايات الألفية الثالثة

تذكر السجن المفتوح الذي يضم أكثر من مليوني فلسطيني

السجن الذي يعرفه العالم باسم "قطاع غزة"

تذكر أن أكثر من مليونين من أهل فلسطين ينامون ويستيقظون على وقع الانفجارات والغبار 

وينامون على الحصى المتناثر والانهيارات 

تصور سيدات لا يجدن دورة مياه تستر عورتهن

ولا ماء يطفئ عطشهن

ولا نارا لطهي بعض ما يسد رمق الصبية الناجين من شظايا القنابل

المتناثرين على قارعة الفَناء المبرمج

تصور هؤلاء وقد استبدلوا براءة الشغب

بشظايا القنابل

تصورهم يتآلفون مع رعب الملاجئ ودخان الانفجارات

تصورهم يلمون أغراضهم على عجل

يحملونها على رؤوسهم 

ويتوجهون إلى لا مكان   

هل رأيت جثامينهم الصغيرة الدامية المحترقة؟

تصور كل هؤلاء بلا مصباح ولا منضدة سرير

ولا نوم 

ولا سكن 

ولا عمل 

ولا مدرسة 

ولا أغراض

ولا يوم 

ولا أوتوبيس

ولا سيارة 

ولا صباح 

ولا مساء 

ولا أوراق 

ولا كتب 

ولا مكتبات 

تصورهم بلا أريكة 

ولا مقهى 

ولا قاعة سينما 

أو فضاء مسرح

تصور كيف يقاومون وكيف يكابرون 

تصور كيف يدب في ثناياهم الشعور بالألم والضياع 

قبل أن يستحيل إلى غضب مشروع من كل شيء. كل شيء

هم ليسوا إلا نموذجا لما يعيشه شعب فلسطين اليوم ولما عاشه على مر أجيال

وأنت تعرف

أنت تعرف أيها الضمير الإنساني أن الفلسطينيين منذ انطلاق هذه التراجيديا لم يغيروا على أحد 

ولم يسلبوا حق أحد 

ولم يتراموا على أملاك أحد

أنت تعلم أنهم منذ البدء يدافعون عن حقهم في العيش على أرضهم 

أنت تعلم أنهم هجِّروا من بلادهم غصبا

ولم يكن لهم من خيار سوى استرداد الحق المغتصب بقوة السلاح

ثم كانت مفاوضات السلام المجهضة

ثم وصل جيل آخر من أبناء فلسطين

آمن بقوة التظاهر السلمي وواجه العنف اليوميلإسرائيل بالحجارة المجردة

وأنت تعلم أنهم – رغم كل ذلك – جنحوا للسلم 

وقبلوا باقتسام الأرض والعيش بسلام متجاورين

وأنت على بينة من كل ما أصدره المنتظم الدولي من قرارات 

لا يجف مدادها إلا وتعمد إسرائيل إلى رميها في سلة المهملات

ولا زالت إلى اليوم

مدعمة في ذلك بمن مهدوا لها أسباب الوجود

وأنت تعلم أن البادئ أظلم...

منذ 7 أكتوبر شاهد العالم كل الصور على المباشر

صور هجوم حماس وصور رد فعل إسرائيل

وإلى حين اتضاح الحقيقي من المزور في صور العنف المتداولة، فإنه لا يوجد حس سليم يمكن أن يبرر الوحشية وقتل الأطفال وجرائم الاغتصاب والتمثيل بالجثث، من أي جهة كانت. 

أليس كذلك؟

لكن، هل تتذكر أيها الضمير الكوني يوم وقف ياسر عرفات في الأمم المتحدة سنة 1974 مخاطبا العالم؟

وكيف أشهر غصن الزيتون بيده اليمنى

وبندقية المقاوم بيده اليسرى

صارخا في وجه العالم: "لقد جئتكم يا سيادة الرئيس بغصن الزيتون مع بندقية ثائر، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي".

هل تتذكر كيف بادر ياسر عرفات 

وكيف مد يده لمصافحة إسحاق رابين – أمام أنظار العالم - يوم كان السلام على مرمى حجر؟ 

وهل تتذكر كيف أن إسحاق رابين الذي مد يده للسلام مترددا، جندله قاتلٌ أعمى  

خارجٌ لتوه من غبش الحقد الأعمى

أرسله عرابو الحقد الأعمى...

فلماذا خلدتَ إلى الصمتِ يوم مزقت الدولة الإسرائيلية أوراق شجرة السلم الخضراء

ووطأتها بجزمات جنرالاتها قبل مجنديها؟

ولماذا أصبحتَ عاجزا عن الجهر بالحقيقة الساطعة: 

أن فلسطين الضاربة في عمق التاريخ قد مدّت يدها للسلم مع إسرائيل الطارئة على التاريخ السياسي لكل المنطقة؟

سوف يأتي يوم نتحسر فيه على كل الفرص الضائعة المضيعة

أفلم تر العالم يتحسس جهة القلب على قفصه الصدري...

ألم تره متوجسا في كل لحظة من انطلاق شرارة الضياع الأخير؟

ألم تدرك بعد أن الجبنَ عن قول الحق والنكوصَ عن إقرار العدل يكاد يعادل الظلم نفسه؟

صرختك مطلوبةٌ أيها الضمير الكوني...

كي تقول "لا" للفناء المبرمج

"لا" لطغاة العالم الجدد

ولكل من يحميهم من بلدان الغرب الآفل... 

"نعم" للسلام العادل والمنصف...

وإلا فلن يفضل لك إلا ذرف دموع المرارة في قرارة الجحيم 

وعندها لن يبقى بيدنا سوى أن نصلي جميعا 

صلاة الجنازة 

وصلاة الغائب 

على السلام... 

وعلى المستقبل.

صلاح الوديع – 30 أكتوبر 2023

 






الاثنين 30 أكتوبر 2023

              














تحميل مجلة لويكاند






Buy cheap website traffic