محمد بشكار
ألمْ تر كيف يَنْعمُ هذا البعْض المسؤول يا حسرة ، في بَحْبُوحة الخَرَف ، دون أن يُكلِّف دماغه الشَّقاء قَيْد تفكير كي يعرف ، أنَّ أفْظَع سِنٍّ قدْ تُمْنَى باليأس هي مرحلة الشباب ، ولنا أنْ نتخيَّل ماذا يحدث حين ينْقلِبُ الهرم السُّكاني ، لِيُصبح أغلبية اليافعين شُيوخاً ، يُقابِلون الحركة بالشَّلل ، البريق بالأفول في الأعْين ، الصَّوت بالخَرس ، التَّفْكير بالتَّبلُّد والدَّوْخة الرَّخيصة ، العَمل بالأذرع المُنْكسِرة ، لنا أن نتخيَّل كيف تتَّسِع رُقْعة جيل الرَّماد حين تنْطفىء شُعْلةُ الأملْ !
لم يكُن لِيخْطر ببالي يوماً ، أنْ يأْتي جيلٌ يتَّخِذُ الفراغ شِعاراً سياسيّاً للتعبير عن الرَّفْض ، بل تجاوز الشِّعار إلى صياغة بيانٍ تَصْعيدي ، فكأنَّ الأصابع التي دبَّجتْهُ هي نفسُها في الزَّنْد ، تُطلق مع كلِّ نُقطةٍ تَضعُها في آخر السَّطر ، رصاصةً قد تُخطىء في حاضرنا المَقْتَل ولكنها تُصيبُ فِي السُّويْداء المُسْتقبل ، فالدِّراسة فِي نظَر هذا الجيل ، مُجرَّد حشْوٍ بأكْوامِ مُقرَّراتٍ فوق طاقة الأدْمغة ، تُنْهِكها قبل الأوان وتؤدِّي للتَّلَف ، ثُم ما جدْوى أنْ أُضيِّع نِصْف عُمري خلْف جُدران الدِّراسة ، إذا كان آخرُ بابٍ في سُورها العظيم ، يُفْضي للشَّارع وليس الصِّين ، البحْرُ أهْوَن إمّا إلى الضِّفَّة الأخرى حيث الشقاء يُقدَّرُ بِثمن ، أو أعود ببعض أشلائي في بطْن السَّمك إلى الوطن ، على الأقل سأُصبح أنْفَع حين أُسَاهم ببقايا لحمي ودمي ، في السَّلة الغذائية للمُجْتمع !
لا يحْتاج بيانُ الفراغ الَّذي يتَّسعُ كُلَّ يوم بأسْطُرٍ جديدة ، إلى النَّشْر في الصُّحف لتعُمَّ الكارثة ، ألَمْ تَرَ كيف أصبحنا غُرباء في رُقْعةٍ ضيِّقة ، لا أحد هناك في الأكشاك والمكتبات والمعارض وقاعات السينما والمسارح ، إلا مِنْ بعض الإستثناءات المَعْدودة رُبَّما بسبب خَللٍ في هرمون الوعْي الشّقي ، لا أحد يشْغُلُ حيِّزاً في الكرسي أوْ الفضاء ، وبين يوم وآخر لا نمْلكُ غيْر أن نَتحسَّر ، خُصوصاً حين يُقرِّر كاتبٌ أنْ يترجَّل عن صَهْوة القلم ، ولا فرْق بين أن تتوقَّف عن الكتابة والموت الذي يليه الصَّمْتُ للأبد ، لِمَنْ يؤلِّف بعد أنْ تمدَّد التصحُّر الفكْري ، وبيعت المواقف بأكْياس العلَفْ !
لقد اسْتجار الشُّبانُ بالفراغ ، وتركوا النَّوادي حقولا جرداء لا تصلح حتى لزراعة اللَّفْت ، ولا شيء يُعوِّض وجودَهم الحيويَّ ، غير تصريحات رسْمية زائفة في التلفزيون تُزيِّن السَّراب بعبارت كاذبة مثل (..إنها لفتةٌ طيبة) ، ومِنْ أيْن للبلد بِدون هذه الطَّبقة النَّشِيطة ، تلْكَ الدِّينامية التي تُروِّج للرَّأسْمَالَيِن المادِّي والأدبي ، حقاً ليس ثمّة عقابٌ أقْسى من أنْ ألغي كُلَّ مَنْ حولي من أبْسَط اهتماماتي ، وذلكَ ما يصْنعُه الجيلُ الجديد ، يُعاقِب البلد ومَنْ عليها وحتى الموْتى الذين تحتها فِي الثرى ، لأنَّهُم السَّبب الرئيسي الذي جعلهُ بالقُوَّة الطَّبيعية للتناسل ، موجوداً على سطح الأرض ، يَنْتقم بأنْ يُعْلِن نفسه غائباً كبيراً ليس فقط في قاعة الدرس ، بل في كل الدواليب التي بِحركتها تتقدَّمُ قاطرة البلد ، يعيش كأنَّه لا يعيش ، فارغاً من كل شيء يُؤثِّث المجتمع ، لا يهتم بالسياسة ولا الثقافة ولا الأدب ولا الفُنون ، وإذا أحبَّ الرياضة ليس امتثالاً لحِكْمة "العقل السَّليم في الجِسْم السَّليم" ، إنما لِيلْتمِس مِنْ كرة القدم بعض العزاء ، فهي مِثْلُهُ تتلقَّى ضرباتٍ مُوجِعة مِنْ كلِّ جانب ، وحين يَهْرعُ إلى مُباراةٍ كُرويَّة بِرُوحٍ تمزجُ الفجيعة بالفرح ، إنَّما لِيتَّخذها ذريعةً كي يرفع أقوى شِعارات الرَّفْض والغَضَبْ !
ماذا عساهُ يصْنع الشَّاعر والكاتبُ والفنَّان والمُفكِّر أو المُثقَّف عموماً ، بقِيَ وحيداً يُواسِيه فِي كُلِّ مكانٍ ذبابٌ لا يُعوض غِياب الشَّباب ، أمَّا عنِّي يَحْدُث أنْ أجْلِس على حافَّة الشارع بالمقهى ، فَينْتابُني الشُّعور أنِّي أقفُ حيثُ ينتهي العالم على شفير الهاوية ، أُحاوِل بيْن رشْفةٍ وأخرى ، أنْ أسْتَمْتع بوقْتي على إيقاع الموت البطيء للدُّخَان ، ولكنَّني أفشل في الاحتفاظ بمُتْعة عيش هذا البُطْء السِّحْري طويلاً ، وكيف لا وكل مَنْ حولي أسْرَع في التَّلاشي من كل الأوقات المُهَرْوِلة بِنا جميعا ، إلى حتْفٍ قريب أو مُتأخِّر على المقْصلة ، عِلْماً أنَّهم لا يُطاردون سِوى السَّراب الذي يَشْترُونه من الحكومات المُتعاقِبة بأبْخَس الأصْواتِ ، وأكثر ما يَشدُّني وأنا بنفْس المقْهى على حافَّة الشَّارع ، شيخٌ يزحفُ حَذِراً بِنصْف خطْوة ، كأنَّه لا يُريد أنْ يصل لشيء آخر بعد أنْ وصل لِنهاية الكوْن ، أو كأنَّه بعد أنْ أنْفَق كل العمر في الخدمة المدنيَّة بدون فائدة أو مائدة ، أصْبَح خارج كل الإعْترافاتِ التَّاريخية غيْر مَعْنِيٍّ بالزَّمَنْ !
لم يكُن لِيخْطر ببالي يوماً ، أنْ يأْتي جيلٌ يتَّخِذُ الفراغ شِعاراً سياسيّاً للتعبير عن الرَّفْض ، بل تجاوز الشِّعار إلى صياغة بيانٍ تَصْعيدي ، فكأنَّ الأصابع التي دبَّجتْهُ هي نفسُها في الزَّنْد ، تُطلق مع كلِّ نُقطةٍ تَضعُها في آخر السَّطر ، رصاصةً قد تُخطىء في حاضرنا المَقْتَل ولكنها تُصيبُ فِي السُّويْداء المُسْتقبل ، فالدِّراسة فِي نظَر هذا الجيل ، مُجرَّد حشْوٍ بأكْوامِ مُقرَّراتٍ فوق طاقة الأدْمغة ، تُنْهِكها قبل الأوان وتؤدِّي للتَّلَف ، ثُم ما جدْوى أنْ أُضيِّع نِصْف عُمري خلْف جُدران الدِّراسة ، إذا كان آخرُ بابٍ في سُورها العظيم ، يُفْضي للشَّارع وليس الصِّين ، البحْرُ أهْوَن إمّا إلى الضِّفَّة الأخرى حيث الشقاء يُقدَّرُ بِثمن ، أو أعود ببعض أشلائي في بطْن السَّمك إلى الوطن ، على الأقل سأُصبح أنْفَع حين أُسَاهم ببقايا لحمي ودمي ، في السَّلة الغذائية للمُجْتمع !
لا يحْتاج بيانُ الفراغ الَّذي يتَّسعُ كُلَّ يوم بأسْطُرٍ جديدة ، إلى النَّشْر في الصُّحف لتعُمَّ الكارثة ، ألَمْ تَرَ كيف أصبحنا غُرباء في رُقْعةٍ ضيِّقة ، لا أحد هناك في الأكشاك والمكتبات والمعارض وقاعات السينما والمسارح ، إلا مِنْ بعض الإستثناءات المَعْدودة رُبَّما بسبب خَللٍ في هرمون الوعْي الشّقي ، لا أحد يشْغُلُ حيِّزاً في الكرسي أوْ الفضاء ، وبين يوم وآخر لا نمْلكُ غيْر أن نَتحسَّر ، خُصوصاً حين يُقرِّر كاتبٌ أنْ يترجَّل عن صَهْوة القلم ، ولا فرْق بين أن تتوقَّف عن الكتابة والموت الذي يليه الصَّمْتُ للأبد ، لِمَنْ يؤلِّف بعد أنْ تمدَّد التصحُّر الفكْري ، وبيعت المواقف بأكْياس العلَفْ !
لقد اسْتجار الشُّبانُ بالفراغ ، وتركوا النَّوادي حقولا جرداء لا تصلح حتى لزراعة اللَّفْت ، ولا شيء يُعوِّض وجودَهم الحيويَّ ، غير تصريحات رسْمية زائفة في التلفزيون تُزيِّن السَّراب بعبارت كاذبة مثل (..إنها لفتةٌ طيبة) ، ومِنْ أيْن للبلد بِدون هذه الطَّبقة النَّشِيطة ، تلْكَ الدِّينامية التي تُروِّج للرَّأسْمَالَيِن المادِّي والأدبي ، حقاً ليس ثمّة عقابٌ أقْسى من أنْ ألغي كُلَّ مَنْ حولي من أبْسَط اهتماماتي ، وذلكَ ما يصْنعُه الجيلُ الجديد ، يُعاقِب البلد ومَنْ عليها وحتى الموْتى الذين تحتها فِي الثرى ، لأنَّهُم السَّبب الرئيسي الذي جعلهُ بالقُوَّة الطَّبيعية للتناسل ، موجوداً على سطح الأرض ، يَنْتقم بأنْ يُعْلِن نفسه غائباً كبيراً ليس فقط في قاعة الدرس ، بل في كل الدواليب التي بِحركتها تتقدَّمُ قاطرة البلد ، يعيش كأنَّه لا يعيش ، فارغاً من كل شيء يُؤثِّث المجتمع ، لا يهتم بالسياسة ولا الثقافة ولا الأدب ولا الفُنون ، وإذا أحبَّ الرياضة ليس امتثالاً لحِكْمة "العقل السَّليم في الجِسْم السَّليم" ، إنما لِيلْتمِس مِنْ كرة القدم بعض العزاء ، فهي مِثْلُهُ تتلقَّى ضرباتٍ مُوجِعة مِنْ كلِّ جانب ، وحين يَهْرعُ إلى مُباراةٍ كُرويَّة بِرُوحٍ تمزجُ الفجيعة بالفرح ، إنَّما لِيتَّخذها ذريعةً كي يرفع أقوى شِعارات الرَّفْض والغَضَبْ !
ماذا عساهُ يصْنع الشَّاعر والكاتبُ والفنَّان والمُفكِّر أو المُثقَّف عموماً ، بقِيَ وحيداً يُواسِيه فِي كُلِّ مكانٍ ذبابٌ لا يُعوض غِياب الشَّباب ، أمَّا عنِّي يَحْدُث أنْ أجْلِس على حافَّة الشارع بالمقهى ، فَينْتابُني الشُّعور أنِّي أقفُ حيثُ ينتهي العالم على شفير الهاوية ، أُحاوِل بيْن رشْفةٍ وأخرى ، أنْ أسْتَمْتع بوقْتي على إيقاع الموت البطيء للدُّخَان ، ولكنَّني أفشل في الاحتفاظ بمُتْعة عيش هذا البُطْء السِّحْري طويلاً ، وكيف لا وكل مَنْ حولي أسْرَع في التَّلاشي من كل الأوقات المُهَرْوِلة بِنا جميعا ، إلى حتْفٍ قريب أو مُتأخِّر على المقْصلة ، عِلْماً أنَّهم لا يُطاردون سِوى السَّراب الذي يَشْترُونه من الحكومات المُتعاقِبة بأبْخَس الأصْواتِ ، وأكثر ما يَشدُّني وأنا بنفْس المقْهى على حافَّة الشَّارع ، شيخٌ يزحفُ حَذِراً بِنصْف خطْوة ، كأنَّه لا يُريد أنْ يصل لشيء آخر بعد أنْ وصل لِنهاية الكوْن ، أو كأنَّه بعد أنْ أنْفَق كل العمر في الخدمة المدنيَّة بدون فائدة أو مائدة ، أصْبَح خارج كل الإعْترافاتِ التَّاريخية غيْر مَعْنِيٍّ بالزَّمَنْ !