حاوره : عبد العزيز كوكاس
حرب محتملة بين المغرب والجزائر لم تعد مستحيلة.. وهذه دوافعها
ليست الحرب سوى صراع سياسي على ملعب آخر ، وبرغم شرورها وأعطابها ومخلفاتها، فإنها جزء من دورة حركية الأمم ، ذلك أن «الحرب إزميل سيء لنحت الغد» بتعبير مارتن لوثر كينغ، وها نحن نرى ما يحدث اليوم بين المغرب والجزائر، فيما يبدو تأزيما ممهدا لحرب، ولفهم دوافعها، علينا مراجعة المفاهيم التقليدية لنشوب الحرب حول الهيمنة والأمن والمصلحة والانتقام، ويمنحنا التاريخ وقائع مشابهة لما يحدث بين المغرب والجزائر، الذي انتقل من صراع سياسي ودبلوماسي محدود السقف ومتحكم في أفقه، إلى ما يشبه التسخينات الممهدة لحرب قد تبدو مثل قدر أعمى بالنسبة للمغرب، لكنها ضرورية بالنسبة للجزائر بسبب الخوف من المستقبل..
بدءا يجب التمييز بين مشاعرنا التي تنفر وتنأى عن أي حرب ، ولا تساهم في التحريض والتجييش لتسميم الأجواء بين بلدين جارين وشعبين شقيقين، وبين تحليل الوقائع المتناسلة والتي لا تسير في الأفق البعيد والمتوسط إلا نحو حرب محدودة أو مفتوحة بين بلدين قدرت لهما دكتاتورية الجغرافيا أن يكونا بلدين قويين وأن تحدوهما مطامح الهيمنة الإقليمية ، وأن يتماسا على الحدود في أكثر من مناسبة وأن يحملا معا جراح الصراع السياسي الناتج عن مخلفات الحرب الباردة ، ذلك أن نفور الناس من الحرب لم يمنع من نشوب أكثر الحروب تدميرا، ولعل الاستمرار العالمي في الاهتمام بالتسلح لا زال يحركه الخوف من الشر المحض والمنفعة والطموح إلى الهيبة والمجد.
فالحروب لا تندلع لأسباب أمنية بل على العكس إنها اليوم «استخدام القوة كأداة من أدوات السياسة العامة من أجل أهداف سياسية، ولم تنشب الحروب دوما بسبب حسابات واقعية كانت تدور دوما في الحسبان، إنها إحدى حماقات الممارسة السياسية ذاتها! ولا شيء مستحيل في السياسة كما كان يردد نابليون.
التوازن العسكري لا يعتبر دوما صمام أمان
حين تحدثت إلى العديد من المحللين المهتمين بالعلاقات الدولية والشأن العسكري حول مخاوفي من نشوب حرب قريبة بين المغرب والجزائر، تبدأ على شكل مناوشات محدودة على الحدود كما يقع بين باكستان والهند ثم تمتد.. وأنه يلزمها فقط ضربة المروحة أو فخ تيوسيديدس، كانت الإجابة هي نفسها: استحالة نشوب حرب مفتوحة بين المغرب والجزائر على المدى القريب والمتوسط، الأمر جد مستبعد حسب معظم المهتمين، من جهة لوجود ما يشبه توازن الرعب على مستوى التسلح بين المغرب والجزائر، ووجود تقدير جيد لدى قيادتي البلدين حول حجم المخاطر المتأتية من حرب لن تكون استعراضا عسكريا، وهذا عنصر يخدم السلام ولا يشجع على الحرب بين جيشين قويين، ثم هناك دور حراس المعبد، أي القوى الكبرى التي لها مصالح في المنطقة ولن تسمح لأي طرف بتهديدها..
لكن يبدو لي هذا التفسير التقليدي المطمئن لم يعد قادرا على الصمود، فهل الحروب التي عرفها العالم نشأت دوما لعدم وجود توازن القوى ومصالح القوى العظمى؟ وفي حالة المغرب والجزائر هل توازن الرعب العسكري كاف لمنع الحرب؟ ثم ألا تكون الدول الكبرى ذاتها صاحبة المصلحة في أي تحول استراتيجي في المنطقة لم يحسمه لا ربيع عربي في نسخته الأولى ولا الثانية؟
لهذا تنشأ الحروب كما يعلمنا التاريخ
لماذا تندلع الحرب عادة؟ سؤال بحث فيه المؤرخون والفلاسفة وإستراتيجيو فن الحرب... الذي حددوا دوافع الحرب في أربعة عوامل: الخوف، المصلحة، المكانة والانتقام.. أو الخوف والشهوة والقوة والمجد.. لا تمتلك الدول اليوم ككيانات عامة أي مشاعر أو أحاسيس لكن من يشرفون على تسييرها يحسون، ويسقطون ذواتهم على الجماعات التي ينتسبون إليها أو يتولون زمام تسييرها، عادة ما نتناسى في تفسير دوافع الحروب ما يسميه الباحث ريتشارد نيد ليبو في كتابه «لماذا تتحارب الأمم؟»، تلك الكلاب التي لا تنبح، وأعني بها هنا في هذا السياق، العوامل المرتبطة باللاوعي المختزن في الذاكرة، من ضربة المروحة لباي الجزائر حتى صيحة بن بلة «حكرونا المراركة»، ومن وجود دولة عمر بها المستعمر 132 سنة، ومرت من عشرية قاسية للحرب الأهلية، فيما كان الجار الغربي مستقرا وينعم بالأمن، مع تباهيهه بعراقة تاريخه ومجد حضارته، فيما لا زال حتى المستعمر القديم يعتبر أن الجزائر لم تكن موجودة قبل 1830، حسب تصريحات مانويل ماكرون نفسه... ومن تم ليس غريبا أن يتزامن نفس التصعيد الدبلوماسي الذي مارسه الجيش الحاكم اتجاه المغرب مع ما يحدث اتجاه فرنسا، على اختلاف في الحدة والوقع، إنه الإحساس بالخوف من المستقبل الذي يوقظ أوجاع الماضي .
لقد وصلت النخبة العسكرية الجزائرية -التي لا تستطيع تغيير قدر الجغرافيا الثابتة في جوارها مع المغرب- إلى استنفاذ سقف الأوكسجين الذي يمنحها التجدد والاستمرار، وهي التي راكمت مصالح ممتدة بالطول والعرض، أضحت تخشى انهيار كل شيء من حولها، لذلك فهي قادرة على القيام بأي جنون ضد أي رياح تغيير تعاكس مصالحها في الداخل كما في الخارج.. ليس بدافع الانتقام أو المجد ولا شهوة الحرب التي لا يضمن أحد نتائجها على وضعه الداخلي وعلى إسقاطاتها السياسية.. لنتذكر دوما التعريف التقليدي للحرب باعتبارها نزاعا مسلحا بين دولتين أو أكثر من الكيانات غير المنسجمة، حيث الهدف منها هو إعادة تنظيم الجغرافية السياسية للحصول على نتائج مرجوة ومصممة بشكل ذاتي .
مصيدة تيوسيديدس: هل الحرب بين الجزائر والمغرب قدر حتمي؟
في تفسيره لدوافع الحرب البولوبونيسية في القرن الخامس قبل الميلاد، كتب المؤرخ الإغريقي ثيوسيديدس Thucydides: «إن نمو قوة أثينا، والإنذار الذي ألهمه في اسبارطة، جعل الحرب أمرًا لا مفر منه»، وفي تحليله لأسباب الحرب الطاحنة كان صاحب كتاب «تاريخ الحرب» أقرب إلى فهم الأسباب العميقة للحرب البولوبونيسية حين اعتبر أن الإسبارطيين كانوا يشعرون بالتهديد بفعل الإنجازات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لأثينا، أكثر مما أشعرتهم به تهديدات قوتها العسكرية ..
ويضيف المؤسس الأول لمدرسة الواقعية السياسية الذي اعتبر أن العلاقات بين الدول تنشأ على أساس مبدأ القوة لا مبدأ الحق، أن تطور أثينا وبداية تقدمها بعد أن تحررت من كل عوائقها وتطلعها لمستقبل أكثر ازدهارا، في حين لم تكن الظروف مناسبة خارج التفوق العسكري الإسبرطي يسمح بتحقيق الإنجازات الكبرى التي كانت قد بدأت تشهدها أثينا، كان هو الحافز الذي جعل إسبارطة التي لم تكن تلتفت للقوة العسكرية لأثينا بل لانطلاقها بعيدا في سماء التقدم والنهضة في كافة المجالات، تشعر بالتهديد القوي لوجودها وبدأت ترتسم أمام قادة الإسبرطيين ملامح تغير الخريطة الجيو إستراتيجية التي ستضيع معها مصالحكم ومكانة مدينتهم، فأعلنوا الحرب المشهورة في التاريخ .
إن «مصيدة تيوسيديدس» حول الحرب كقدر حتمي قد تعيد نفسها اليوم بين المغرب والجزائر، فالوضع الذي توجد عليه الجزائر، بسبب هشاشة الواقع الاقتصادي وتزايد حدة الأزمة الاجتماعية، وضبابية المستقبل وإغلاق مجال تداول السلطة بين نخبة عسكرية تقليدية على رأس السلطة، حيث اتسعت شهية النخبة الحاكمة وضاقت الثروة، أمام ضغط الحراك الشعبي الذي يوجد في حالة كمون فقط، إذ لم يغلق قوسه بعد.. مقابل امتداد المغرب في إفريقيا.. المجال الحيوي التقليدي للجزائر، وتدبيره معظم الأزمات التي عبرها بأقل تكلفة، من الربيع العربي إلى تداعيات الجائحة وإسقاطاتها الاقتصادية والاجتماعية، حتى الانتصارات الدبلوماسية التي وصلت حد كسب اعتراف الإدارة الأمريكية بسيادة المغرب على صحرائه التي ظلت أشبه بكعب أخيل لدى المملكة...
إن هذه الإنجازات المحرزة لدى الجار الغربي، لا تنظر لها النخبة العسكرية الحاكمة باطمئنان، لأنها تضفي الكثير من الضبابية على مستقبل الجزائر في ظل وضع اقتصادي صعب، واستدعاء الحرس القديم إلى مؤسسات الدولة ليس إلا أحد عناصر التجييش الذي يسبق أي حرب.. فمنذ نهاية بوتفليقة، ظهر الجيش بشكل مكشوف في الساحة السياسية بدون أي قناع، وبحكم تناقض المصالح وضغط الشارع، دخلت النخبة العسكرية الحاكمة في عملية «دق العظام» بين مكوناته، فيما يشبه حرب الإلهاء، ففتحت السجون لكبار المسؤولين المدنيين والعسكريين منذ عهد القايد صالح الذي حين اختفى، تم سجن ومحاكمة من كان في صفه، كان لا بد من حرب حتى داخل رقعة شطرنج السلطة، لكن ذلك لم يدم طويلا، حتى أننا شهدنا خروج مسؤولين وجهت لهم تهم ثقيلة من السجن لينتقلوا إلى الحكم، ولأن مساحة الحرب الداخلية محدودة في ظل وضع الستاتيكو، فلا بد من توسيع رقعتها بعد أن قام المغرب بتغيير استراتيجي في المنطقة منذ 13 فبراير 2020، في غير صالح الجزائر، ولم يكن تصريح رئيس الدبلوماسية الجزائرية رمطان العوامرة في الندوة الصحافية التي نظمها لشرح أسباب قطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب، حين أشار إلى ضرورة العودة إلى وضع ما قبل 13 فبراير، الذي قلب الكثير من المعطيات في المنطقة في غير صالح الجزائر.. مجرد فلتة لسان بل إشارة إلى حجم الضربة التي تلقتها راعية بوليساريو حين دفعت بمليشياته بلا تخطيط إلى جحيم الكركرات.
ليست الحرب سوى صراع سياسي على ملعب آخر ، وبرغم شرورها وأعطابها ومخلفاتها، فإنها جزء من دورة حركية الأمم ، ذلك أن «الحرب إزميل سيء لنحت الغد» بتعبير مارتن لوثر كينغ، وها نحن نرى ما يحدث اليوم بين المغرب والجزائر، فيما يبدو تأزيما ممهدا لحرب، ولفهم دوافعها، علينا مراجعة المفاهيم التقليدية لنشوب الحرب حول الهيمنة والأمن والمصلحة والانتقام، ويمنحنا التاريخ وقائع مشابهة لما يحدث بين المغرب والجزائر، الذي انتقل من صراع سياسي ودبلوماسي محدود السقف ومتحكم في أفقه، إلى ما يشبه التسخينات الممهدة لحرب قد تبدو مثل قدر أعمى بالنسبة للمغرب، لكنها ضرورية بالنسبة للجزائر بسبب الخوف من المستقبل..
بدءا يجب التمييز بين مشاعرنا التي تنفر وتنأى عن أي حرب ، ولا تساهم في التحريض والتجييش لتسميم الأجواء بين بلدين جارين وشعبين شقيقين، وبين تحليل الوقائع المتناسلة والتي لا تسير في الأفق البعيد والمتوسط إلا نحو حرب محدودة أو مفتوحة بين بلدين قدرت لهما دكتاتورية الجغرافيا أن يكونا بلدين قويين وأن تحدوهما مطامح الهيمنة الإقليمية ، وأن يتماسا على الحدود في أكثر من مناسبة وأن يحملا معا جراح الصراع السياسي الناتج عن مخلفات الحرب الباردة ، ذلك أن نفور الناس من الحرب لم يمنع من نشوب أكثر الحروب تدميرا، ولعل الاستمرار العالمي في الاهتمام بالتسلح لا زال يحركه الخوف من الشر المحض والمنفعة والطموح إلى الهيبة والمجد.
فالحروب لا تندلع لأسباب أمنية بل على العكس إنها اليوم «استخدام القوة كأداة من أدوات السياسة العامة من أجل أهداف سياسية، ولم تنشب الحروب دوما بسبب حسابات واقعية كانت تدور دوما في الحسبان، إنها إحدى حماقات الممارسة السياسية ذاتها! ولا شيء مستحيل في السياسة كما كان يردد نابليون.
التوازن العسكري لا يعتبر دوما صمام أمان
حين تحدثت إلى العديد من المحللين المهتمين بالعلاقات الدولية والشأن العسكري حول مخاوفي من نشوب حرب قريبة بين المغرب والجزائر، تبدأ على شكل مناوشات محدودة على الحدود كما يقع بين باكستان والهند ثم تمتد.. وأنه يلزمها فقط ضربة المروحة أو فخ تيوسيديدس، كانت الإجابة هي نفسها: استحالة نشوب حرب مفتوحة بين المغرب والجزائر على المدى القريب والمتوسط، الأمر جد مستبعد حسب معظم المهتمين، من جهة لوجود ما يشبه توازن الرعب على مستوى التسلح بين المغرب والجزائر، ووجود تقدير جيد لدى قيادتي البلدين حول حجم المخاطر المتأتية من حرب لن تكون استعراضا عسكريا، وهذا عنصر يخدم السلام ولا يشجع على الحرب بين جيشين قويين، ثم هناك دور حراس المعبد، أي القوى الكبرى التي لها مصالح في المنطقة ولن تسمح لأي طرف بتهديدها..
لكن يبدو لي هذا التفسير التقليدي المطمئن لم يعد قادرا على الصمود، فهل الحروب التي عرفها العالم نشأت دوما لعدم وجود توازن القوى ومصالح القوى العظمى؟ وفي حالة المغرب والجزائر هل توازن الرعب العسكري كاف لمنع الحرب؟ ثم ألا تكون الدول الكبرى ذاتها صاحبة المصلحة في أي تحول استراتيجي في المنطقة لم يحسمه لا ربيع عربي في نسخته الأولى ولا الثانية؟
لهذا تنشأ الحروب كما يعلمنا التاريخ
لماذا تندلع الحرب عادة؟ سؤال بحث فيه المؤرخون والفلاسفة وإستراتيجيو فن الحرب... الذي حددوا دوافع الحرب في أربعة عوامل: الخوف، المصلحة، المكانة والانتقام.. أو الخوف والشهوة والقوة والمجد.. لا تمتلك الدول اليوم ككيانات عامة أي مشاعر أو أحاسيس لكن من يشرفون على تسييرها يحسون، ويسقطون ذواتهم على الجماعات التي ينتسبون إليها أو يتولون زمام تسييرها، عادة ما نتناسى في تفسير دوافع الحروب ما يسميه الباحث ريتشارد نيد ليبو في كتابه «لماذا تتحارب الأمم؟»، تلك الكلاب التي لا تنبح، وأعني بها هنا في هذا السياق، العوامل المرتبطة باللاوعي المختزن في الذاكرة، من ضربة المروحة لباي الجزائر حتى صيحة بن بلة «حكرونا المراركة»، ومن وجود دولة عمر بها المستعمر 132 سنة، ومرت من عشرية قاسية للحرب الأهلية، فيما كان الجار الغربي مستقرا وينعم بالأمن، مع تباهيهه بعراقة تاريخه ومجد حضارته، فيما لا زال حتى المستعمر القديم يعتبر أن الجزائر لم تكن موجودة قبل 1830، حسب تصريحات مانويل ماكرون نفسه... ومن تم ليس غريبا أن يتزامن نفس التصعيد الدبلوماسي الذي مارسه الجيش الحاكم اتجاه المغرب مع ما يحدث اتجاه فرنسا، على اختلاف في الحدة والوقع، إنه الإحساس بالخوف من المستقبل الذي يوقظ أوجاع الماضي .
لقد وصلت النخبة العسكرية الجزائرية -التي لا تستطيع تغيير قدر الجغرافيا الثابتة في جوارها مع المغرب- إلى استنفاذ سقف الأوكسجين الذي يمنحها التجدد والاستمرار، وهي التي راكمت مصالح ممتدة بالطول والعرض، أضحت تخشى انهيار كل شيء من حولها، لذلك فهي قادرة على القيام بأي جنون ضد أي رياح تغيير تعاكس مصالحها في الداخل كما في الخارج.. ليس بدافع الانتقام أو المجد ولا شهوة الحرب التي لا يضمن أحد نتائجها على وضعه الداخلي وعلى إسقاطاتها السياسية.. لنتذكر دوما التعريف التقليدي للحرب باعتبارها نزاعا مسلحا بين دولتين أو أكثر من الكيانات غير المنسجمة، حيث الهدف منها هو إعادة تنظيم الجغرافية السياسية للحصول على نتائج مرجوة ومصممة بشكل ذاتي .
مصيدة تيوسيديدس: هل الحرب بين الجزائر والمغرب قدر حتمي؟
في تفسيره لدوافع الحرب البولوبونيسية في القرن الخامس قبل الميلاد، كتب المؤرخ الإغريقي ثيوسيديدس Thucydides: «إن نمو قوة أثينا، والإنذار الذي ألهمه في اسبارطة، جعل الحرب أمرًا لا مفر منه»، وفي تحليله لأسباب الحرب الطاحنة كان صاحب كتاب «تاريخ الحرب» أقرب إلى فهم الأسباب العميقة للحرب البولوبونيسية حين اعتبر أن الإسبارطيين كانوا يشعرون بالتهديد بفعل الإنجازات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لأثينا، أكثر مما أشعرتهم به تهديدات قوتها العسكرية ..
ويضيف المؤسس الأول لمدرسة الواقعية السياسية الذي اعتبر أن العلاقات بين الدول تنشأ على أساس مبدأ القوة لا مبدأ الحق، أن تطور أثينا وبداية تقدمها بعد أن تحررت من كل عوائقها وتطلعها لمستقبل أكثر ازدهارا، في حين لم تكن الظروف مناسبة خارج التفوق العسكري الإسبرطي يسمح بتحقيق الإنجازات الكبرى التي كانت قد بدأت تشهدها أثينا، كان هو الحافز الذي جعل إسبارطة التي لم تكن تلتفت للقوة العسكرية لأثينا بل لانطلاقها بعيدا في سماء التقدم والنهضة في كافة المجالات، تشعر بالتهديد القوي لوجودها وبدأت ترتسم أمام قادة الإسبرطيين ملامح تغير الخريطة الجيو إستراتيجية التي ستضيع معها مصالحكم ومكانة مدينتهم، فأعلنوا الحرب المشهورة في التاريخ .
إن «مصيدة تيوسيديدس» حول الحرب كقدر حتمي قد تعيد نفسها اليوم بين المغرب والجزائر، فالوضع الذي توجد عليه الجزائر، بسبب هشاشة الواقع الاقتصادي وتزايد حدة الأزمة الاجتماعية، وضبابية المستقبل وإغلاق مجال تداول السلطة بين نخبة عسكرية تقليدية على رأس السلطة، حيث اتسعت شهية النخبة الحاكمة وضاقت الثروة، أمام ضغط الحراك الشعبي الذي يوجد في حالة كمون فقط، إذ لم يغلق قوسه بعد.. مقابل امتداد المغرب في إفريقيا.. المجال الحيوي التقليدي للجزائر، وتدبيره معظم الأزمات التي عبرها بأقل تكلفة، من الربيع العربي إلى تداعيات الجائحة وإسقاطاتها الاقتصادية والاجتماعية، حتى الانتصارات الدبلوماسية التي وصلت حد كسب اعتراف الإدارة الأمريكية بسيادة المغرب على صحرائه التي ظلت أشبه بكعب أخيل لدى المملكة...
إن هذه الإنجازات المحرزة لدى الجار الغربي، لا تنظر لها النخبة العسكرية الحاكمة باطمئنان، لأنها تضفي الكثير من الضبابية على مستقبل الجزائر في ظل وضع اقتصادي صعب، واستدعاء الحرس القديم إلى مؤسسات الدولة ليس إلا أحد عناصر التجييش الذي يسبق أي حرب.. فمنذ نهاية بوتفليقة، ظهر الجيش بشكل مكشوف في الساحة السياسية بدون أي قناع، وبحكم تناقض المصالح وضغط الشارع، دخلت النخبة العسكرية الحاكمة في عملية «دق العظام» بين مكوناته، فيما يشبه حرب الإلهاء، ففتحت السجون لكبار المسؤولين المدنيين والعسكريين منذ عهد القايد صالح الذي حين اختفى، تم سجن ومحاكمة من كان في صفه، كان لا بد من حرب حتى داخل رقعة شطرنج السلطة، لكن ذلك لم يدم طويلا، حتى أننا شهدنا خروج مسؤولين وجهت لهم تهم ثقيلة من السجن لينتقلوا إلى الحكم، ولأن مساحة الحرب الداخلية محدودة في ظل وضع الستاتيكو، فلا بد من توسيع رقعتها بعد أن قام المغرب بتغيير استراتيجي في المنطقة منذ 13 فبراير 2020، في غير صالح الجزائر، ولم يكن تصريح رئيس الدبلوماسية الجزائرية رمطان العوامرة في الندوة الصحافية التي نظمها لشرح أسباب قطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب، حين أشار إلى ضرورة العودة إلى وضع ما قبل 13 فبراير، الذي قلب الكثير من المعطيات في المنطقة في غير صالح الجزائر.. مجرد فلتة لسان بل إشارة إلى حجم الضربة التي تلقتها راعية بوليساريو حين دفعت بمليشياته بلا تخطيط إلى جحيم الكركرات.
الخوف على مكانة الجزائر من تصاعد متواتر للمغرب
في مقال للباحثين هال براندز وهو أستاذ كرسي هنري كيسنجر المتميز للشؤون العالمية في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز ، ومايكل بيكلي أستاذ العلوم السياسية بجامعة تافتس ، ومؤلف كتاب «لماذا ستبقى أمريكا القوة العظمى الوحيدة في العالم؟»، نشرته مجلة فورين بوليسي الأمريكية نهاية الشهر الماضي، تساءل المؤلفان: لماذا تخوض الدول حروبا ؟ «الجواب التقليدي هو قصة تصاعد المنافسين وتراجع الهيمنة.. القوة الصاعدة، التي تغضب من قواعد النظام القائم، تكتسب أرضية على قوة راسخة - الدولة التي وضعت تلك القواعد. تتكاثر التوترات ويترتب على ذلك اختبارات القوة.. والنتيجة هي دوامة الخوف والعداء التي تؤدي، بشكل شبه حتمي، إلى الصراع».. وفي سياق تحليلهما لاحتمال نشوب حرب بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، يؤكدان: «إن فكرة فخ ثيوسيديدس، التي روج لها عالم السياسة في جامعة هارفارد جراهام أليسون، ترى أن خطر الحرب سوف يرتفع بشكل صاروخي عندما تتفوق الصين الصاعدة على أمريكا المترهلة. مع تصاعد التوترات بين الولايات المتحدة والصين، أصبح الاعتقاد بأن السبب الأساسي للاحتكاك هو «انتقال القوة» الذي يلوح في الأفق - استبدال قوة مهيمنة بأخرى- أصبح اعتقادًا أساسيًا».. ويستنتجان أن «المشكلة الوحيدة في هذه الصيغة المألوفة هي أنها خاطئة» .
رغم أن الأمر بين المغرب لا يتعلق بقوة صاعدة تطمح لتجد نفسها مكان القوة المترهلة، بل بقوة تخشى تزايد تحقيق قوة أخرى مكاسب وإنجازات ومراكمة انتصارات عديدة ومحاولة تقæديم نفسها كقوة مهيمنة في المنطقة، تنازع الدول العظمى.. بهذا الأفق يبدو لي الاطمئنان السائد إلى مسلمة استحالة أو استبعاد نشوب الحرب بين المغرب والجزائر نظرا لتوازن القوة أو وجود مصالح كبرى للقوى العظمى لا تسمح للبلدين المعنيين بتجاوز الحدود المرسومة للصراع سلفا.. مقولات قد لا تصمد أمام إعادة قراءة التاريخ واستخلاص الدروس الواجب أخذها بعين الاعتبار.. فالخوف من تفوق قوة منافسة حتى في المجالات السلمية وضبابية المستقبل، تعتبر دافعا للحرب .
رغم أن بعض الحقائق تبدو بديهية حد الغثيان، إلا أن وضعها في السياق والتذكير بها يشكل مفتاحا لفهم ما يحدث بين المغرب والجزائر اليوم وإسقاطاته السياسية على المستقبل القريب، إذا لم يقع تغيير فجائي هنا أو هناك.. غابت الجزائر سنين طويلة عن العالم الخارجي بسبب أزمة الخلافة على عهد الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، وعاشت عزلة قاسية، حين تفرغت لمشاكلها الداخلية بعد اندلاع حراك شعبي كاسح، نتيجة أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة بسبب تراجع أسعار البترول، منذ الأزمة النفطية عام 2014، حيث يعاني أكثر من ثلث الشباب الجزائري في سن العمل من البطالة.. وهناك ارتفاع صاروخي لأسعار المواد الأساسية، وليس من الواضح كيف ستسير الأمور هذه السنة على ضوء استمرار الجائحة، وحتى في حال التحسن التدريجي الذي يساعد عليه ارتفاع أسعار النفط مؤخرا، فإن الجزائر تحتاج إلى سنوات للعودة بالاقتصاد إلى مستوى ما قبل كورونا. وبحسب آخر تقرير لصندوق النقد الدولي، فقد تراجع الاقتصاد الجزائري بنسبة 6 في المائة عام 2020، وظل عجز الموازنة العامة للسنوات الخمس الأخيرة يتراوح بين 13 إلى 17 مليار دولار، حتى أن حكومة أحمد أويحيي - المسجون في قضايا فساد- لجأت في أكتوبر 2017، إلى طبع العملة المحلية لتغطية العجز وسداد الدين الداخلي للبنك المركزي الجزائري حيث تم طبع ما قيمته 56 مليار دولار حتى ماي 2019.. وسجلت ميزانية الجزائر عجزا تاريخيا في بداية هذا العام فاق 2700 مليار دينار أي ما يفوق 22 مليار دولار، ورغم الأزمة الاقتصادية الخانقة وتداعياتها الاجتماعية بسبب الوباء وشلل الاقتصاد الوطني، فقد تم توجيه جزء كبير من الميزانية نحو التسلح مع توقيف ميزانية الاستثمار، واللجوء إلى الاقتراض ببيع السندات..
في ذات الوقت انتقلت الدبلوماسية المغربية من مأزق الدفاع إلى الهجوم، من العودة إلى الاتحاد الإفريقي حتى تغيير المعطيات الجيو إستراتيجية لصالحه بعد ما حدث بالكركرات في 13 نونبر الماضي، والاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء، وفتح قنصليات وسفارات دول مؤثرة بكل من العيون والداخلة، وفي الوقت الذي كانت شركات كبرى تغادر الجزائر، كان المغرب يستقبل استثمارا نوعيا في مجال صناعة السيارات والطائرات وفي مجال الطاقة، ورغم ثقل الأزمة الاجتماعية، استطاعت المملكة أن تدبر التوازنات بضرر أخف، بل إن قوة المؤسسات المتدخلة في مكافحة الفيروس وما تلاها أعطى قوة أكبر للدولة وثقة أكبر في مؤسساتها، وهو ما تفتقده الجزائر، ولو أن الوطنية الشوفينية تتزايد بشكل ملفت للانتباه في المغرب والجزائر، وهي ليست إلا أحد تجليات الإعداد السيكولوجي للحرب كشرعية للدفاع عن الوجود .
إن خشية النخبة العسكرية الحاكمة في الجزائر من تحرر المغرب من كل ما يعيق تطوره، وشكل تأثيره الإقليمي وازدياد ملحوظ في اكتساحه لمواقع نفوذ تقليدية للجزائر، يجعل الخوف من المستقبل يزداد وطأة وقد يكون وحده دافعا نحو الحرب التي لا أقول إنها حتمية لتسوية النزاع لكنها ليست مستحيلة أو مستبعدة حتى .
المصدر : جريدة العلم الورقية