فاطمة موهمو: صحفية و مخرجة أفلام وثائقية
اليوم عيدها؛ و الليلة هي صاحبة الشأن وعَرُوس الموائد في "إض ن يناير"، رأس السنة الأمازيغية.
في بيتنا وعلى غرار بيوت سوس تعتبر تاڭلا وجبة أساسية ولها مكانة كبيرة ؛معنوية ورمزية أكبر من حبات الشعير أو البلبولة ،قبصات الملح ورشات الماء التي تحضر بها... طبق سهل التحضير؛ ذو معنى عميق وتأثير كبير.
أكثر من طبق…
هذه الأكلة البسيطة مرتبطة بنا كأشخاص كسوسيين وكـ شلوح، تجعلك تنغمس في مكونات المجتمع السوسي. لا أحبذ كلمة "أمازيغي"، لا أعلم لماذا، لكني أميل أكثر إلى الأوصاف المرتبطة بالتضاريس بالأرض بـ "أكال". أجد أن الريفي والزياني والسوسي والشلح أوصاف حقيقية ومتجذرة تصل إلى القلب والعقل بدون عراقيل.
هذه الأوصاف أقوى من "أمازيغي" رغم أن هذه الصفة جامعة وواصفة، ولكنها لا تعبر عن الخصوصية والحميمية التي تتميز بها مجتمعاتنا و تشكل مفهوم التمغربيت الذي يميز البقعة التي نحتلها على كوكب الأرض، وأيضا بعيداً عن ما يدعو إليه أصحاب "فري تامزغا" والعرق الصافي، فكرة الانتماء لعرق واحد "صافٍ" دون اختلاط وتجانس ضرب من الخيال. لكن مع ذلك، أجد الأمر مميزًا أن ينادونك بالسوسية أو الشلحة، أمر أُحبه.
وبرغم من أني قضيت حياتي بأكملها في العاصمة الرباط، نطقي للسوسية صحيحٌ شيئًا ما، والفضل يعود إلى إيمي (والدتي). كانت كلما حدثناها بالدارجة تجيبنا بالسوسية، لدرجة أنها كانت تخاطب أصدقائنا بالسوسية رغم عدم استيعابهم لما تقول، ولكن هذا ساهم في اكتسابنا للغة، رغم أننا لم نزر "تمازيرت" البلاد وجبال سوس لعقد من الزمن. إلا أن نطقنا وحديثنا "سانك سانك" على قول جدتي "إيمي فاظم".
"إيمي فاظم"، الجدة الحنونة ومدرستي الأولى في هذه الحياة، على يديها حفظت سور القرآن الكريم الأولى من حزب سبح ، وتعلمت الصلاة والحديث، وأحببت الدعاء. و على فكرة، الدعاء بتشلحيت جميل جدًا...
قصة واحدة تتكرر
يقولون إن الحروف، الكلمات واللغة تخاطب الجوارح وتلج القلب دون استئذان، وهذا ما لمسناه حين كنا نكتب أو نُحضر لأفلامنا الوثائقية أو حين كنا نشاهد أفلام زملائنا ومحاولاتهم في توثيق لقطات الحياة.
لا يمكن عد كم من الأفلام شاهدت سواء أفلام زملائي الطلبة أو أفلام المخرجين الكبار، وبكل تأكيد لا أتذكر كل هذه المشاهد والقصص والحكايات بتفاصيل دقيقة وبنفس الطريقة، لكن هناك استثناءات، كالفيلم الوثائقي القصير "سلام أمهات" للمخرجة فاتن خلخال، الذي تناول موضوع أمهات معتقلي سنوات الرصاص حيث قامت المخرجة بعمل مقابلات مع أمهات المعتقلين والمختفين، وأنا أستمع لشهادات الواحدة تلو الاخرى في قاعة سينما اسبانيول المبهرة بمدينة تطوان.. لم أستفق إلا ودموع عيني تنهمر بغزارة بعد سماعي لشهادة والدة المانوزي رحمها الله.
أحسست أن الشاشات انعدمت بيننا، أردت فقط عناقها وتقبيل رأسها. رأيت فيها صورة الأمهات وقصصهم التي لا تموت.
لم يخطئ الكاتب جوزيف كامبل حين تحدث في كتابه "البطل بألف وجه" أو "رحلة البطل" على أن كل القصص تعيد نفسها وأن الأصل حكاية واحدة، وقصص الأمهات تتخذ نفس المسار.
استحضر هنا مثالًا لفيلم وثائقي آخر، وهو فيلم أقل ما يقال عنه رائع "تيكمي نيكرن"، أي "منزل الحقول" للمخرجة تالا حديد، مدته 93 دقيقة، وثّق قصة أختين: أكبرهما منشغلة بترتيبات زواجها التقليدي، والصغرى تحلم بأن تصبح محامية في المستقبل. فيلم سينمائي جميل ومتفوق من الناحية البصرية والسينمائية، لكني لم أندهش كما اندهش زملائي وانبهروا بتقاليد وعادات "تمازيرت"، لأنني بكل بساطة أنتمي إلى ذلك المجتمع وأعرف أناسًا يعيشون قصصًا مماثلة للقصة التي وردت في وثائقي للمخرجة "تالا حديد". ولولا هجرة أبي من قرية صغيرة في جبال مدينة تارودانت، (عاصمة السعديين التي طالها التهميش لسبب غير معلن).
لولا هجرته من قرية "إيي" بقبيلة "إداوزدوت" البعيدة عن عاصمة المملكة بـ 660 كيلومتر، لكان مصيري مماثلًا لمصير إحدى بطلات هذا الفيلم، أو ربما كنت أنا البطلة...
"تاڭلا" تجمعنا...
بكل تأكيد، "تاڭلا" لا تحمل كل هذا القيل والقال، لكن كما أشرت في البداية، التفاصيل جزء من هويتنا، ومنها تتشكل، وبها تُبنى. وجمالية "تامغربيت" تتجسد في تلاحم كافة هذه الأطياف بين السوسي والشلحي والريفي والزيان والصحراوي والفاسي والمكناسي والرباطي والشمالي... يشهدها الزمان والمكان، وتتوج بالاحتفالات مع مزيج من الأطباق في عيد الأرض "إض يناير". نحتفل "بتاكلا" وبمملكتنا المغربية وتفاصيلها. "أسكاس أمباركي".
في بيتنا وعلى غرار بيوت سوس تعتبر تاڭلا وجبة أساسية ولها مكانة كبيرة ؛معنوية ورمزية أكبر من حبات الشعير أو البلبولة ،قبصات الملح ورشات الماء التي تحضر بها... طبق سهل التحضير؛ ذو معنى عميق وتأثير كبير.
أكثر من طبق…
هذه الأكلة البسيطة مرتبطة بنا كأشخاص كسوسيين وكـ شلوح، تجعلك تنغمس في مكونات المجتمع السوسي. لا أحبذ كلمة "أمازيغي"، لا أعلم لماذا، لكني أميل أكثر إلى الأوصاف المرتبطة بالتضاريس بالأرض بـ "أكال". أجد أن الريفي والزياني والسوسي والشلح أوصاف حقيقية ومتجذرة تصل إلى القلب والعقل بدون عراقيل.
هذه الأوصاف أقوى من "أمازيغي" رغم أن هذه الصفة جامعة وواصفة، ولكنها لا تعبر عن الخصوصية والحميمية التي تتميز بها مجتمعاتنا و تشكل مفهوم التمغربيت الذي يميز البقعة التي نحتلها على كوكب الأرض، وأيضا بعيداً عن ما يدعو إليه أصحاب "فري تامزغا" والعرق الصافي، فكرة الانتماء لعرق واحد "صافٍ" دون اختلاط وتجانس ضرب من الخيال. لكن مع ذلك، أجد الأمر مميزًا أن ينادونك بالسوسية أو الشلحة، أمر أُحبه.
وبرغم من أني قضيت حياتي بأكملها في العاصمة الرباط، نطقي للسوسية صحيحٌ شيئًا ما، والفضل يعود إلى إيمي (والدتي). كانت كلما حدثناها بالدارجة تجيبنا بالسوسية، لدرجة أنها كانت تخاطب أصدقائنا بالسوسية رغم عدم استيعابهم لما تقول، ولكن هذا ساهم في اكتسابنا للغة، رغم أننا لم نزر "تمازيرت" البلاد وجبال سوس لعقد من الزمن. إلا أن نطقنا وحديثنا "سانك سانك" على قول جدتي "إيمي فاظم".
"إيمي فاظم"، الجدة الحنونة ومدرستي الأولى في هذه الحياة، على يديها حفظت سور القرآن الكريم الأولى من حزب سبح ، وتعلمت الصلاة والحديث، وأحببت الدعاء. و على فكرة، الدعاء بتشلحيت جميل جدًا...
قصة واحدة تتكرر
يقولون إن الحروف، الكلمات واللغة تخاطب الجوارح وتلج القلب دون استئذان، وهذا ما لمسناه حين كنا نكتب أو نُحضر لأفلامنا الوثائقية أو حين كنا نشاهد أفلام زملائنا ومحاولاتهم في توثيق لقطات الحياة.
لا يمكن عد كم من الأفلام شاهدت سواء أفلام زملائي الطلبة أو أفلام المخرجين الكبار، وبكل تأكيد لا أتذكر كل هذه المشاهد والقصص والحكايات بتفاصيل دقيقة وبنفس الطريقة، لكن هناك استثناءات، كالفيلم الوثائقي القصير "سلام أمهات" للمخرجة فاتن خلخال، الذي تناول موضوع أمهات معتقلي سنوات الرصاص حيث قامت المخرجة بعمل مقابلات مع أمهات المعتقلين والمختفين، وأنا أستمع لشهادات الواحدة تلو الاخرى في قاعة سينما اسبانيول المبهرة بمدينة تطوان.. لم أستفق إلا ودموع عيني تنهمر بغزارة بعد سماعي لشهادة والدة المانوزي رحمها الله.
أحسست أن الشاشات انعدمت بيننا، أردت فقط عناقها وتقبيل رأسها. رأيت فيها صورة الأمهات وقصصهم التي لا تموت.
لم يخطئ الكاتب جوزيف كامبل حين تحدث في كتابه "البطل بألف وجه" أو "رحلة البطل" على أن كل القصص تعيد نفسها وأن الأصل حكاية واحدة، وقصص الأمهات تتخذ نفس المسار.
استحضر هنا مثالًا لفيلم وثائقي آخر، وهو فيلم أقل ما يقال عنه رائع "تيكمي نيكرن"، أي "منزل الحقول" للمخرجة تالا حديد، مدته 93 دقيقة، وثّق قصة أختين: أكبرهما منشغلة بترتيبات زواجها التقليدي، والصغرى تحلم بأن تصبح محامية في المستقبل. فيلم سينمائي جميل ومتفوق من الناحية البصرية والسينمائية، لكني لم أندهش كما اندهش زملائي وانبهروا بتقاليد وعادات "تمازيرت"، لأنني بكل بساطة أنتمي إلى ذلك المجتمع وأعرف أناسًا يعيشون قصصًا مماثلة للقصة التي وردت في وثائقي للمخرجة "تالا حديد". ولولا هجرة أبي من قرية صغيرة في جبال مدينة تارودانت، (عاصمة السعديين التي طالها التهميش لسبب غير معلن).
لولا هجرته من قرية "إيي" بقبيلة "إداوزدوت" البعيدة عن عاصمة المملكة بـ 660 كيلومتر، لكان مصيري مماثلًا لمصير إحدى بطلات هذا الفيلم، أو ربما كنت أنا البطلة...
"تاڭلا" تجمعنا...
بكل تأكيد، "تاڭلا" لا تحمل كل هذا القيل والقال، لكن كما أشرت في البداية، التفاصيل جزء من هويتنا، ومنها تتشكل، وبها تُبنى. وجمالية "تامغربيت" تتجسد في تلاحم كافة هذه الأطياف بين السوسي والشلحي والريفي والزيان والصحراوي والفاسي والمكناسي والرباطي والشمالي... يشهدها الزمان والمكان، وتتوج بالاحتفالات مع مزيج من الأطباق في عيد الأرض "إض يناير". نحتفل "بتاكلا" وبمملكتنا المغربية وتفاصيلها. "أسكاس أمباركي".