بقلم: الدكتور خالد فتحي
ورغم ان بايدن كان ورطهم في الحرب ضد موسكو ، و فجر نور ستريت بين روسيا والمانيا، وسبب المتاعب الاقتصادية والاجتماعية الاخيرة التي تعاني منها مؤخرا الشعوب الأوروبية، إلا أنهم حبذوا استمرار الحزب الديمقراطي .
وراهنوا كلهم على خليفته هاريس.
فبالنسبة لهم، الأمر لايحتمل مع ترامب. هو لا يعبأ بهم، ويستصغرهم. ويفعل ذلك بغير قليل من الوقاحة، ويخاطبهم كأتباع لا كحلفاء. ولقد ضجوا منه لأنه لايفرق في التعامل معهم بينهم وبين أعداء أمريكا التقليديين. لم ينسوا أبدا كيف كانوا يحارون خلال نسخته الأولى على أي رجل يرقصون معه. ولذلك كانو يرغبون قبل 5 نوفمبر لو افلتوا من عيش هذه التجربة ثانية. خصوصا وأنهم أمام ترامب جديد اكثر قوة، وأكثر احتمالا أن يتحول نحو” دكتاتورية “مغلفة بلبوس ديمقراطي.
لقد لعب القدر لعبته، ووقع السيناريو الأسوأ بالنسبة لهم. وعاد ترامب إليهم منذرا إياهم بشرور كثيرة ستصيب أوروبا. أقلها حرب تجارية منهكة، وقيصر روسي شامت بهم، ومعركة حامية حول تقنين الذكاء الاصطناعي ووسائل التواصل الاجتماعي.
ويا للمفارقة، بوتين، خصمهم الذي حاربوه تحت لواء أمريكا الديمقراطية، منشرح برجوع ترامب، بينما هم من يجلسون بجانب هذا الاخير في الناتو، يتوجسون من قراراته، ولا يدرون ماذا هو فاعل بهم؛ وفي ملفات كثيرة .
فقد ينهي ترامب المتعطش للوفاء بوعوده مثلا الحرب الروسية الاوكرانية التي جرهم لها بايدن بمكالمة هاتفية، وفي يوم واحد. فترامب عينه على الصين. واوكرانيا ليست قضيته، وقد يوقف إمدادات الولايات المتحدة لها او يجبرها على سلام مذل .فكيف يكون منظرهم حين يتركون كقادة وجها لوجه مع روسيا التي كانت تمدهم بالغاز والطاقة. كيف يواجهون شعوبهم بتقلب المزاج الأمريكي وبالورطة التي اوقعوا فيها أوروبا،.كيف يشرحون لها بلادتهم الجيواستراتيجية، وكيف سيقنعونها بمواصلة الحرب لوحدهم ضد روسيا أو حتى بالسلم معها .كلا الاحتمالين يسفههم ويزري بهم أمام مواطنيهم .الأول مكلف وليس بالمستطاع، والثاني يطرح سؤالا مقضا .. وهو لم شنت هذه الحرب أصلا؟.
لقد وقعوا بين مطرقة شعوبهم وسندان ترامب الذي ينظر لهم كأعداء اكثر مما ينظر لهم كأصدقاء . صاروا كما قال الشاعر : ومن نكد الدنيا على الحر-أن يرى عدوا له مامن صداقته بد .
اصدق وصف خلال هذه الولاية الثانية للعلاقة بين ترامب وقادة الغرب أنهم أعدقاء، أي أصدقاء تارة وأعداء تارات أخرى .فترامب رجل لا يفهم معنى التحالف، هو يتصرف كتاجر في العلاقات مع الدول بمنطق الصفقات .
مشكلة الأوربيين مع ترامب ، أنه يقلب لهم ظهر المجن، فرغم ان الناتو ذراع أمريكا العسكري ،الا انه يعتبر ان الأوربيين عالة على دافعي الضرائب الامريكيين .ولذلك هو يطالبهم بالدفع اذا أرادوا الحماية . ترامب يحيي لديهم الشكوك حول مستفبل الناتو .ولقد سبق له ان هدد بالانسحاب من حلف الأطلسي هذا ، اذا لم يرفعوا مساهماتهم، ولذلك لاشيء يجبره على نجدة من يتخلف منهم، وتركه بالتالي لقمة سائغة لبوتين. هو يذكرهم بضعفهم وبهشاشتهم الأمنية والعسكرية، ويمن عليهم ليل نهار بدفاع أمريكا عنهم .و قد تحتم عليهم الآن أن يتحملوا هذا المن 4سنوات ، ولربما أكثر إذا ما عبد الطريق لمريده دي فانس لخلافته في البيت الابيض .
ولسوف لن ينهك ترامب أوروبا استراتيجيا وسياسيا فقط، بل هو يتهددها بحرب تجارية لاهوادة فيها. .قد تجد القارة العجوز نفسها في كماشة الصراع الاقتصادي بين بيكين وواشنطن. وقد يضغط عليها ترامب كي تخفض وشائجها التجارية مع الصين ، وقد تجد ان بضائعها غير قادرة على دخول الأراضي الأمريكية اذا تم رفع الرسوم الجمركية ، مقابل اغراق أسواقها بالبضائع الصينية المرتدة اليها من أمريكا .
كل هذه المخاطر تأتي في وقت غير مناسب لاوربا.اقتصادياتها متعبة، وحكوماتها غير مستقرة . وشعبوية اليمين المتطرف تزداد غلوا . وهي فوق ذلك ليست على قلب رجل واحد كما منافسوها روسيا والصين وأمريكا. ولذلك ستجد صعوبة في التفاوض على مصالحها بشكل موحد . إذ ليس من السهل رص 27 دولة في مواجهة رئيس يزعجه اختلال الميزان التجاري مع الاتحاد الأوربي، ولايخفي امتعاضه من السيارات الالمانية والنبيذ الفرنسي.
رغم هروع قادة أوروبا إلى تهنئة ترامب، إلا أن ذلك كان على سبيل التقية لاغير . فتأخر بعضهم في التهنئة يشي بالمخاوف التي تنتابهم وعبارات البعض الاخر تدل على الرعب اكثر مما تدل على التهنئة ، فمثلا تأكيد ألمانيا وفرنسا في تهنئتهما على الشراكة الاستراتيجية مع أمريكا لاينبغي ان ينظر له في هذا السياق كدليل على العلاقات الجيدة ، وإنما كتعبير على مايتوجس منه الأوروبيون من متاعب قادمة .وعلى استجدائهم علنا تصريحا مطمئنا من ترامب .
اولف شولتز سبق الجميع إلى المتاعب .هو يعيش الآن أتعس أوقاته ؛ تحالفه مهدد بالتفكك، وإجراء انتخابات مبكرة في زمن ترامب، سوف لن يكون في صالحه .
في كل ارجاء اوروبا هناك خطر التعرض للعدوى الأمريكية .غير بعيد عن المانيا ، يتحدث المعلقون أن مارين لوبين ترى نفسها منذ الآن في قصر الإليزيه سنة 27 . فرنسا السياسية أو الماكرونية تعيش وضعية احراج ، صفقة بيع الغواصات إلى استراليا التي أجرتهاأمريكا من وراء ظهر باريس، والانتقادات اللاذعة التي كالها ترامب لماكرون لما وصفه ” بالغباء “،واتهمه بالهرولة لتملق شي جين بينغ .كل ذلك لازال طريا عالقا بذهن الفرنسيين، وعاد لكي يطفو على السطح من جديد . مما لاشك فيه ، ستندم فرنسا وألمانيا اللتان تمثلان نواة الاتحاد الأوروبي الصلبة ، على أنهما لم تبتعدا بأوروبا عن الولايات المتحدة الأمريكية، و أنهما قصرتا في بناء جيشهاالموحد القمين وحده بتحقيق استقلاليتها الاستراتيجية .
كم ستعضان على الأصابع ندما ،وترامب يقول ان أمريكا تحررت ، بينما تريان ان أوربا التي تقودانها لم تتحرر من أمريكا.
الأدهى من كل هذا أن مشكلتهم لم تعد هي التبعية العسكرية لأمريكا فقط ، بل انضافت لها ظاهرة ترامب التي تتمدد وتتفشي وتغري الحركات اليمينية ا لجذرية بالوصول إلى الحكم ، وهذا سيفتح المجتمعات الأوروبية على مآلات غير محسوبة .
فوز ترامب المبهر وتوجهه المحافظ سوف يشكك المجتمعات الأوروبية فيما تروج له نخبها من قيم تتعلق بحقوق النساء والمثليين والحق في الإجهاض والتحول الجنسي .وهذا سيزيد من فضح حالة الصفرية التي يعاني صار منها الغرب غير الامريكي دينيا بسبب اليساريين الذين تخلواعن العمال وعانقوا ثقافة الووك، ويعجل بهزيمته السياسية والاقتصادية و الحضارية .
هناك حالة من الصدمة تلتها حالة استنفار باوربا التي اجتمع كل قادتها بمافيهم أولئك الذين لاينتمون للاتحاد الأوروبي ببودابست . و قد كان ترامب هو الغائب الحاضر خلال هذا الاجتماع .
ورغم الكلمات التي شجعوا بها بعضهم البعض، حول وحدة المصير الأوروبي ،وضرورة عدم تفويض أمن الأوربيين أمنهم للأمريكيين إلى الأبد، إلا أن واقع الحال يشير إلى أن أوروبا في وضع ضعيف جيواستراتيجيا وانها دخلت مرحلة الافول . فهي لم تضع في حسابها هذا السيناريو .زد على ذلك أن هناك من القادة الاوربيين من لايخفي انبهاره بنموذج ترامب كرئيس وزراء المجر اوربان فيكتور ورئيسة وزراء إيطاليا…..
رغم ان الرئيس الفرنسي يريد أن يحكي انتفاخا صولة ديغول، إلا أن العربة التي يقودها مهترئة، المانيا غابت عن الاجتماع ، وبعض الحاضرين لاتهمهم أمريكا، بل الانضمام للاتحاد الأوروبي، وآخرون ممن أغلق باب هذا الاتحاد في وجوههم لم يعد لهم مناص من ترامب .أما بريطانيا فقد قفزت من الزورق الأوروبي منذ البريكست ، ولا أمل في عودتها إليه.
الافدح أن أوروبا ستضطر لقراءة التاريخ الذي يخطه الآخرون، لا التاريخ الذي تكتبه هي كما تمنى ماكرون .و ستقرأه في كتاب أنظمة تعتبرها “شمولية” كالصين وروسيا وأمريكا التي حصل فيها ترامب على مايشبه تفويضا بالحكم المطلق . ولذلك لا مفر للغرب الأوربي من مراجعة الذات ومن نقد ذاتي والا سيجد نفسه في النسخة 2 من ترامب في مواجهة كل العالم بما في ذلك أمريكا حاضنته.