كتاب الرأي

علي معوني...المتصوف في محراب الجراحة


من الناس من تبدأ حياته الحقيقية بعد الوفاة، لان روحه تكون قد تحررت بهذا الغياب المادي من الشروط البيولوجية ، وانبعثت حرة طليقة معطاءة في وجدان مريديهم الذين تربوا في مدرستهم ، و في نفوس كل من تأثروا بهم، وخبروهم عن قرب كقدوات تأسوا بها ،وتحلوا بخلقها ، وساروا على دربها و منهاجها .. البروفيسور علي معوني الذي فارقنا بحر الأسبوع الأول من هذا الشهر، هو أحد هؤلاء القلائل الذين تنطبق عليهم هذه القاعدة في المجال الطبي.



بقلم: الدكتور خالد فتحي

 فبرحيله الجسدي عن هذه الدنيا الفانية،  دخل هذا  ألطبيب المربي،  و المعلم النادر الألمعي ،  دورته  الأبدية  كنموذج ملهم  وكنبراس مضيئ  و علامة هادية نحو المثل والقيم  التي سيظل يتمثلها الاطباء  بعده  في  ممارساتهم  المهنية  .ويتذكرها أيضا كل من خالطه أو عولج على يديه من مرضاه أو أسرهم .

كان علي معوني طبيبا فذا من طينة خاصة قلما تجود بمثله  المنظومات الصحية ....طبيبا  تحلق حوله الكل، و تحقق فيه  الإجماع،  ليس لتفوقه العلمي المبهر وحنكته ودربته الفائقتين  وحسب ،  وإنما لخصاله الإنسانية، واخلاقه الرفيعة ، التي كانت تجسد لنا نحن من درسنا في كراساته، واستمعنا لشروحه ،مواصفات الطبيب كما تخيلها وأرساها المؤسسون الأولون لمهنة الطب عبر التاريخ منذ البدايات  ....تلك هي الصورة البهية الرائقة  التي كانت تشع منه ، و تلك  هي  المعاني العميقة  التي كان عنوانا لها .

 كان  بالخصوص أستاذا ذا كاريزمية مميزة ،  و صاحب هيبة لاتقاوم  ..تلك الكاريزما وتلك الهيبة  اللتان تجعلانك كلما صادفته  ، تشعر  بالانجذاب له ، وبأنك قد صرت  دفعة واحدة في حضرة الوقار والجلال في ابهى تجلياتهما ...   كان  الطبيب الأيقونة الذي يجله ويكبره الجميع، الاستاذ الذي يستبشر برؤيته كل من يلتقيه،   ولو كان ذلك للحظة خاطفة  على ادراج المستشفى، أو بين اروقة الكلية ، الرجل العالم الحليم اللبيب  الذي يقع في حبه كل من  يستمع  له وهو  يحاضر،  اويشرح، اويفسر، أو وهو  ينصح ويرشد ويوجه   .

يذكر مريدو ومجايلو هذا الاستاذ الوقور  أنه حين  يدلي بدلوه في القضايا التي تهم الطب والاطباء ، كان الصمت يطبق على الكل كما لو ان على الرؤوس  الطير . لقد كان ينطق بكلام  كله حكمة وحصافة  وسداد و بعد نظر..كلام يصدر به عن فراسة غير مسبوقة و بصيرة متقدة. كان رأيه  نافذا  فينا ...،حاسما ، قاطعا ، ومقدرا  من الجميع،  كونه كان بالنسبة لنا  أستاذا مختلفا.أستاذا آتيا من عوالم ربانية ...فهو  لم يكن أبدا  يمارس الطب لغرض دنيوي،  أو ابتغاء شهرة أو منصب ، أو عرض  زائف  ،  بل  كان طبيبا زاهدا  ناسكا  قانتا متخشعا يتعبد في محراب الطب...  .طبيبا يمكن أن نقول عنه إنه قد  تصوف في الطب .

 لقد اجتمع في المرحوم البروفيسور  علي معوني ماتفرق في غيره من الاساتذة والأطباء  : العلم الغزير ، والموهبة الخارقة في الجراحة ، ورجاحة العقل و الحكمة وحسن التقدير، وهي الفضائل التي ترجح كفاءة طبيب على طبيب .  لقد كان يمسك بالمبضع مثلما   يمسك فنان عبقري ريشته فيستأصل المرض كأنما يرسم .هكذا تحدث عنه طلبته،  وهكذا قد رأوه ، فجعلوه مثالا وغاية قصوى يصبون الى محاكاتها . كم طالبا قد غير مساره الى الجراحة بتعليق مشجع منه .لقد اوحى للعديدين بالتخصص الذي يناسبهم .كان شمسا ساطعة تظلل طلبته .شمسا تفجرت منها كواكب مشعة في علم الجراحة لازالت تواصل مسيرته باقتدار .كان أستاذا يعشق الطلبة محاضراته،  لايكتم علمه ،يوصل المعلومة بسلاسة .بل إن بعض المعلومات الصعبة والمعقدة كانت لاتستوعب الا مقرونة بالاستاذ علي معوني.كان حريصا على التطوير وعلى طلب  المهارة والدربة والحذق في الجراحة .ولكنه قبل كل هذا ،   كان إنسانا   في المصلحة التي يشرف عليها،  وكان ينشر هذه الإنسانية اينما تنقل في مستشفى ابن سينا،  وحيثما ذهب يحاضر في موضوعات علم الجراحة سواء بكلية الطب او في أنحاء  المغرب العميق ...كان رجل خلوقا دمث الطباع يدخل القلب دون استئذان لكأنما قد صب حبه في القلوب صبا  .كان هذا الرجل  يقنع  بأساريره الناطقة   قبل أن يتكلم  أحيانا ...فقد كان يملك مايمكن ان نصطلح عليه بسحر الرواد المؤسسين  وتأثيرهم....وجهه ذو التعابير الصارمة التي تشي بالحالات الصعبة التي باشرها طيلة حياته ،...كان هذا الوجه للمفارقة  يرشح لينا ورفقا وودا بطلابه وزملائه ومرضاه .كان وجها فيه فيض وبهاء وسماحة وتواضع وخفض جناح ورضا. 

البروفيسور  علي معوني هو باختصار شديد وظالم لمكرمات الرجل هرم  من اهراماتنا العلمية التي عاشت دوما  في نكران ذات وتضحية لأجل الآخر  .  هو من الاساتذة الكبار العظام  الذين انبروا للمهمة الفضلى  التي كانت تعني لهم ، هم الجيل الأول لأطباء مابعد الاستقلال مقارعة الدول المتقدمة علميا وطبيا ،  وإنهاء التبعية والارتهان  لها ....أولئك  الذين  عبدوا لنا الطريق، و بصموا  مسيرة الطب الحديث بالمغرب ببصمتهم ، وطبعوها بطابعهم الخاص .الأساتذة المنارات الذين يجب أن يستمروا دوما وأبدا مرجعية لنا .

حين يتحدث الاطباء من  هذه  الاجيال العديدة  التي تربت في حاضنة علي معوني ، فهم  يتحدثون  عنه بإكبار.كانوا يشعرون به أبا لهم  . و مما لاشك فيه انه قد كان هو أيضا يعرف هذا فيهم،  لذلك نذر نفسه لهم ،فظل " أسير" هذه المرتبة والمكانة السامقة التي بوأوه أياها .هذه المكانة كانت تعكس مفهومه للنجاح وللدور في الحياة   . لقد كافح طوال حياته كي يظل على هذه الصورة البهية ، لم يشأ ان يخذلهم يوما رغم المغريات، وما أكثرها ....كان يعي أننا مارون في هذه الحياة ،  وتبقى منا  آثارنا وما حفرناه في وجدان الناس من مأثرات وعطاءات وصالح أعمال  .لم يكن متهافتا  على الربح المادي،  ولا على ركوب قطار القطاع الخاص .كان القطاع العام بغيته الاولى ، وكانت الجراحة محبوبته التي لايفارقها .كان مخلصا لمرضاه من الفقراء والمعدمين  ، مهتما وبارا  بهم ، شديدا قويا في الحض على حسن التكفل  بهم،  و كان يرى انهم أجدر بوقته وعلمه وفنه ودعمه وحنوه  . كان ممن يعيشون لأجل الاخرين ،كل المواطنين لديه سواء،  وخصوصا من كانوا  يقدمون عليه من المغرب العميق.كان سلوكه اليومي   ترجمة أمينة لقسم ابقراط .هذا السمو، وهذا النزوع إلى   الرقي والى العلو في سيرته  اللذان  سارت بذكرهما الركبان،  يعود في جزء كبير منه للأسرة  الكريمة التي نشأ فيها،  والتي وإن مدت المغرب بعدة قامات،و في مختلف المجالات ، إلا أنها آثرت بعطائها  أكثر  المجال الطبي .و هنا لنا أن نقول أن ذ  علي معوني تميز عن الأطباء من أسرته المحبوبة ،  انه هو من كان له المساهمة الجلى في  جعل اسم معوني علامة طبية مسجلة بالمغرب،   ينحني أمام  تفوقها و يشيد بمثالها الجميع.

 أعي اني اكتب هذه السطور تحت مراقبة عدد من الأساتذة من طلابه ؛ والذين قد يشعر  أغلبهم   باني لم اوفي ربما  الفقيد حقه ، ولم ابسط كل مناقبه.

لكن كيف تحيط الكلمات ببروفيسور شكل لوحده  مدرسة طبية  كانت  تمشي  بيننا على الأرض؟. برفيسور،  حياته أخصب وأفسح من أن يلم بكل دقائقها تعبير مهما اجتهدنا فيه .

فطوبى  اذن لمدينة بني ملال المجاهدة أن شكلت  مسقط رأس و محتد هذا الاستاذ الجليل المقتدر  ، وطوبى لمدينة الرباط التي احتضنت نبوغه وكانت شاهدة على  عبقريته وتفانيه في علمه و عمله .وطوبى للمغرب هذا الابن البار الذي يدل على أن بلدنا بلد معطاءة وولود للرواد  وللناجحين من كل المجالات .

إن لممما يلزمنا في هذا الوقت الذي يشهد فيه  المغرب نهضة طبية  لانظير لها في تاريخه ، ويتم فيه بناء مستشفيات ومعلمات طبية على أعلى مستوى وطراز  ، يكون من واجبنا نحو الأفذاذ من مثل  البروفيسور علي معوني  ، أن نطلق اسماءهم على الأقل  على عدد من  هذه المؤسسات .فمثل هؤلاء الأعلام  يجعلوننا نربط الحاضر بماضينا التليد.حري بعلي معوني أن يرصع اسمه هامة من هامات  مستشفياتنا الكبرى وكلياتنا مثله مثل الخالدين  من قبيل ابن سينا والرازي والزهراوي وغيرهم  . فهذا اقل ما نعبر به عن عرفاننا له ،  رحمك الله أيها الاستاذ العظيم،  واسكنك فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء.وليلهم الله أبناءك من الاطباء الذين رعيت أن يواصلوا مسيرتق بالألق والتميز نفسهما اللذان كنت تحرص عليهما .

Sara Elboufi
سارة البوفي كاتبة وصحفية بالمؤسسة الإعلامية الرسالة مقدمة البرنامج الإخباري "صدى الصحف" لجريدة إعرف المزيد حول هذا الكاتب



الاربعاء 27 نونبر 2024

في نفس الركن
< >

الاربعاء 27 نونبر 2024 - 18:00 غيض من فيض من مهازل جامعات أبي جهل

الثلاثاء 26 نونبر 2024 - 17:00 جين بنغ بالمغرب : المعنى و الأفق


              














تحميل مجلة لويكاند






Buy cheap website traffic