كتاب الرأي

بين التضامن الإنساني وتشويه الدين: قراءة في خطاب المظاهرات المؤيدة لغزة في المغرب


منذ الهجوم المسلح الذي شنته حركة حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023، وما تبعه من رد إسرائيلي أدى إلى سقوط أكثر من 45 ألف ضحية فلسطينية، يشهد المغرب - كما العديد من الدول العربية والإسلامية والغربية - موجات من المظاهرات التضامنية مع أهل غزة. هذا التضامن الشعبي، الذي يعكس في جوهره قيم الإنسانية والتآزر مع المظلومين، ثابت تاريخي في المغرب.



بقلم: هشام العدناني

غير أن المتابع للمشهد المغربي يلحظ ظاهرة مقلقة تتمثل في محاولة بعض الجماعات المتشددة، وعلى رأسها جماعة "العدل والإحسان"، استغلال هذه المظاهرات والتحركات الشعبية لتحقيق أجندات سياسية خاصة. من هنا تأتي أهمية تسليط الضوء على كيفية توظيف النصوص الشرعية وتحريف معانيها لخدمة غايات تتعارض مع مقاصد الشريعة الإسلامية، وخاصة في مسألة طاعة الحاكم والخروج عليه

انحرافات في فهم النصوص الشرعية وتطبيقاتها المعاصرة
تشويه مفهوم "الحكم بما أنزل الله"

تعتمد الجماعات المتطرفة، ومنها جماعة "العدل والإحسان"، على تأويل مغلوط لآيات قرآنية مثل قوله تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ (المائدة: 44). إذ تستخدم هذه الآية لتكفير الحكام والأنظمة التي لا تطبق الشريعة كما تفهمها هذه الجماعات، وبالتالي تبرير الخروج عليهم.

لكن هذا التأويل يتجاهل قصداً ما فسر به حبر الأمة وترجمان القرآن، عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، هذه الآية حين قال: "ليس بالكفر الذي يذهبون إليه، إنه ليس كفراً ينقل عن الملة"، وفي رواية أخرى قال: "كفر دون كفر". فالمقصود هنا هو المعصية، وليس كفراً مخرجاً من الملة كما تزعم تلك الجماعات.

الإشكالية تكمن في أن هذه الجماعات تعيد إنتاج فكر الخوارج الأوائل الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكفّروه وكفّروا خيار الصحابة. وتتمثل إحدى أبرز سمات هذا الفكر في الانتقائية السطحية في التعامل مع النصوص الشرعية، إذ يتم التركيز على ظواهر بعض النصوص وتجاهل النصوص الأخرى التي تخالف رؤيتهم.

توظيف مفهوم "الحاكمية" سياسياً
تتخذ هذه الجماعات من مفهوم "الحاكمية" - أي أن الحكم لله وحده - أساساً لرفض الأنظمة السياسية المعاصرة. لكنها تغفل عمداً أن القرآن الكريم يربط الحكم بما أنزل الله بالعدل وليس بالشكل الحرفي، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ (النساء:58).

لا يمكن فصل الآيات التي تتحدث عن الحكم بما أنزل الله عن الآيات التي توجب طاعة أولي الأمر، مثل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ﴾ (النساء:59). فاستقراء النصوص الشرعية يؤكد أن الإسلام دين نظام وجماعة، وقد حثّ على السمع والطاعة لولاة الأمور في غير معصية الله، حفاظاً على وحدة الأمة واستقرارها، ودرءاً للفتن.

الموقف الشرعي من طاعة الحاكم والخروج عليه
الأحاديث النبوية المنظِّمة للعلاقة مع الحاكم

لقد حدد النبي صلى الله عليه وسلم منهجاً واضحاً في التعامل مع الحكام، كما في قوله: "على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" (متفق عليه). هذا الحديث يحدد إطاراً دقيقاً: الطاعة واجبة للحاكم في غير معصية، لكن عدم الطاعة في المعصية لا يعني الخروج عليه وشق عصا الطاعة.

وفي حديث آخر عنه صلى الله عليه وسلم: "ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئًا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يدًا من طاعة" (رواه مسلم). فالإنكار القلبي للمنكر لا يتناقض مع الحفاظ على الطاعة العامة للحاكم.

ومن أهم النصوص في هذا الباب، حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه في البيعة: "وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان" (متفق عليه). هذا الحديث يضع شرطاً صارماً للخروج على الحاكم: رؤية الكفر البواح الصريح الذي لا يحتمل التأويل، مع وجود دليل قاطع عليه، بالإضافة إلى شرط القدرة على التغيير دون إحداث مفسدة أكبر.

المفاسد المترتبة على الخروج على الحاكم
تؤكد الشريعة الإسلامية أن الخروج على ولاة الأمور، حتى وإن وجد منهم ظلم أو فسق، يترتب عليه مفاسد عظيمة وشرور خطيرة تفوق في الغالب المصلحة المرجوة من هذا الخروج

اختلال الأمن: انتشار الفوضى وانعدام الأمان على الأنفس والأموال والأعراض
ضياع الحقوق: تعطيل مصالح الناس، وعدم القدرة على ردع الظالم أو نصرة المظلوم
سفك الدماء المعصومة: اقتتال المسلمين فيما بينهم
تسلط الأعداء: ضعف الدولة والمجتمع يجعلها عرضة للتدخلات الخارجية.

يتضح هذا جلياً في الأمثلة التاريخية المعاصرة، كما حدث في الجزائر خلال تسعينيات القرن الماضي، حيث تحولت الاحتجاجات إلى أعمال عنف استباحت دماء الأبرياء، رجالاً ونساءً وأطفالاً، باسم الدين، والدين منها براء. ومن هنا جاءت القاعدة الفقهية المعروفة: "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح"، وقاعدة "لا يجوز إزالة الشر بما هو أشر منه"

من مظاهرات تضامنية إلى منصات للتحريض: آليات جماعة "العدل والإحسان
استغلال العاطفة الدينية والوطنية

تعتمد الجماعات المتطرفة مثل "العدل والإحسان" على استغلال العاطفة الدينية والإنسانية للمغاربة تجاه القضية الفلسطينية. فهي ترفع شعارات مثل "الشعب يريد إسقاط التطبيع" و"التطبيع خيانة" ليس حباً في القضية الفلسطينية فحسب، بل لاستغلالها كورقة ضغط سياسي داخلي.

إن الملاحظ لهذه المظاهرات يرى كيف يتم الانتقال تدريجياً من التضامن مع غزة إلى المطالبة بإسقاط "التطبيع" (أي العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل)، ثم إلى توجيه النقد إلى النظام السياسي في البلاد، ومن ثم محاولة تقويض الاستقرار الداخلي. وهذا التدرج يشبه إلى حد كبير النهج الذي اتبعته الجماعات المتطرفة في بلدان عربية أخرى.

التغلغل في صفوف الشباب وأوساط الطلبة
تستثمر هذه الجماعات في جذب الشباب المتعطش للعمل من أجل قضاياهم، وتوظف لذلك أدوات تربوية وتكوينية خاصة. فهي تنشط في إنشاء مدارس ومراكز ثقافية وحلقات تعليمية تروّج لتفسيرات مُتطرّفة للدين، مُستغلةً في بعض الأحيان ضعف البدائل الرسمية في الوصول إلى هذه الفئة
القلق الأكبر ينبع من محاولة هذه الجماعات ترسيخ ثقافة "المفاصلة" مع المجتمع والدولة، واعتبار الالتزام بطاعة الحاكم أمراً مخالفاً للدين. وهذا يمهد لاحقاً لزعزعة ولاء الشباب لوطنهم ومؤسساتهم.

استراتيجيات مواجهة الخطاب المتطرف
نشر الفهم الصحيح للنصوص الشرعية

لا شك أن من أهم وسائل مواجهة الفكر المتطرف هو نشر الفهم الصحيح والشامل للشريعة الإسلامية. فالشريعة ليست مجرد أحكام جزئية، بل نظام متكامل قائم على تحقيق المصالح ودرء المفاسد. ومن هنا تأتي أهمية توضيح القواعد الفقهية الكبرى مثل "الضرورات تبيح المحظورات" و"المشقة تجلب التيسير" و"تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والحال".

كما أن تصحيح مفهوم الجهاد وبيان أنه في الأساس دفاع عن النفس والأرض والعرض، لا اعتداء، مصداقاً لقوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ (البقرة:190).

تعزيز الخطاب البديل القائم على الوسطية
من المهم تعزيز خطاب ديني معتدل قائم على الحكمة والموعظة الحسنة، وفق منهج القرآن: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ (النحل:125). هذا الخطاب يجب أن يبين أن التضامن مع قضايا الأمة العادلة، كالقضية الفلسطينية، لا يتعارض أبداً مع الولاء للوطن والحفاظ على استقراره وأمنه.

ويبقى دور العلماء والمفكرين المعتدلين محورياً في فضح التأويلات المغلوطة للنصوص الشرعية، وإبراز سماحة الإسلام ووسطيته ورفضه للغلو والتطرف.

معالجة الأسباب الاجتماعية المغذية للتطرف
لا شك أن مواجهة الفكر المتطرف تتطلب أيضاً معالجة الأسباب الاجتماعية والاقتصادية التي تدفع بعض الشباب للانخراط في الجماعات المتطرفة، مثل البطالة والفقر وضعف المشاركة السياسية، انطلاقاً من المقولة المأثورة: "كاد الفقر أن يكون كفراً"

خاتمة: التمييز بين التضامن الإنساني والأجندات المشبوهة
إن التضامن مع الشعب الفلسطيني في غزة، الذي يعاني من عدوان غاشم أدى لاستشهاد عشرات الآلاف، هو واجب إنساني وديني محمود. والتعبير السلمي عن هذا التضامن حق مشروع يكفله الإسلام والقوانين المعاصرة.

لكن الواجب أيضاً هو التبصر والوعي، والتمييز بين التضامن المشروع وبين الانسياق وراء دعوات تسعى لتوظيف هذا التضامن لخدمة أجندات سياسية مشبوهة، قد تضر بمصالح الوطن واستقراره.

لذلك، على المواطن المسلم أن يكون على درجة عالية من الوعي، وألا يسمح باستغلال عاطفته الدينية والإنسانية النبيلة من قبل جماعات تخفي وراء شعاراتها البراقة مشاريع تهدد وحدة المجتمع وأمنه واستقراره. كما يجب على العلماء والمفكرين بذل المزيد من الجهود لتوضيح المنهج الشرعي الصحيح في التعامل مع القضايا المعاصرة، وإبراز مقاصد الشريعة العليا في حفظ الأمن والاستقرار وحقن دماء المسلمين.

نسأل الله تعالى أن يحفظ المغرب وسائر بلاد المسلمين من كل سوء وفتنة، وأن يجنبنا شر دعاة الفتنة، وأن يديم علينا نعمة الأمن والاستقرار، وأن يوفق الجميع لما فيه خير البلاد والعباد.

Sara Elboufi
سارة البوفي كاتبة وصحفية بالمؤسسة الإعلامية الرسالة مقدمة البرنامج الإخباري "صدى الصحف" لجريدة إعرف المزيد حول هذا الكاتب



الثلاثاء 22 أبريل 2025

              

Bannière Réseaux Sociaux

Bannière Lodj DJ















تحميل مجلة لويكاند






Buy cheap website traffic