مدخلات و مخرجات

"العلم" في حوار مع عميد كلية اللغة العربية بمراكش الدكتور أحمد قادم:


- التعليم المدرسي والجامعي موضوع يتكلم فيه كل من هبّ ودبّ وغاب عنه الخبراء والمفتشين والكتّاب ومعدّي المقررات
- يجب إنقاذ الثقافة المغربية من المتسوِّلين وذوي العاهات الفكرية الذين يدافعون عن المنافع الشخصية
- التسويق الثقافي الجيد من شأنه حماية التراث من الاندثار والسرقة والانتحال
- لا يمكن قراءة التفاعل الثقافي والفكري بالمغرب إلا في سياق الاستجابة لحاجيات الأمة التي ترفض العزلة والتطرف
- الاعتراف بكل المكونات الثقافية المشكِّلة للأمة من صميم الخصوصية المغربية
- الدستور المغربي من بين الدساتير التي تعكس الواقع الحقيقي للبلاد وترسخ الثوابت الحضارية والسياسية
- الهشاشة الاقتصادية ليست علامة مغربية مسجلة بل هي ظاهرة كونية
- الثقافة مرآة المجتمعات ومن شانها أن تعطي تصورا حقيقيا وواضحا عن الماضي والحاضر والمستقبل .



قال الدكتور أحمد قادم، إن الشأن التعليمي بالمغرب لم يكن قط قضية فردية أو شخصية، بل كان على الدوام قضية أمة ودولة، وهذا ما يبرر تدخل كل المعنيين في تحقيق الطفرة النوعية وتجاوز التعثرات وبناء صرح تعليمي مغربي طموح .
 
وأضاف قادم أن التعليم أيضا مسؤولية كبرى لتنشئة الأجيال ومحاربة الجهل وإنارة العقول وتكوين المواطن الصالح. ولا مجال فيه للغش أو التحايل على القانون مهما كانت المبررات . 
 
ودعا عميد كلية اللغة العربية بمراكش إلى محاربة الغياب الفكري والتّغَيُّب الجسدي وأن ندافع على كرامة الأساتذة المخلصين حتى لا تتلطخ سُمعة الأساتذة المغاربة المخلصين بأعمالِ فئة انتهازية قليلة تسيء للتعليم ورجاله ونسائه. نقاش مع الأستاذ قادم حول عدد من القضايا المرتبطة بالثقافة المغربية والتنوع اللغوي في المغرب وعن الميزانية المرصودة لهذا القطاع وعن الإكراهات والتحديات التي يجب رفعها من أجل مدرسة ودامعة جيدتين .
 
 
الوضع الثقافي والفكري بالمغرب تغير واتخذ طابع التعدد والتنوع. باعتباركم عميدا لكلية اللغة العربية وباحثا في القضايا اللغوية. هل لهذا التنوع تجليات واضحة في الواقع الأكاديمي والجامعي أم أن الأمر لا يعدو كونه تلميعا لصورة المغرب على أن هناك تدبيرا جيدا لهذا التنوع؟
 
- أود في البداية أن أشكرا جريدة العلم على هذا الحوار كما أشكركم على اختيار الأسئلة .
 
وجوابا عن سؤالكم أريد في البداية أن أعرب عن اتفاقي معكم حول موضوع السؤال الثقافي والتنوع اللغوي. فالأمر يتعلق بمنظومة ثقافية تتكامل فيها عدة مكونات وتنصهر لتشكل ما يسمى بالحضارة المغربية. وهي بالمناسبة حضارة عريقة تمتد لقرون عديدة وساهمت في هذه "الدولة الأمة" التي آمنت بالتنوع في نطاق الوحدة وبالتعدد داخل الأمة الواحدة. وعندما نسائل هذه المظاهر الجديدة والتي تشي بالتّغير الثّقافي والفكري، فإن المسألة ترتبط بالتطور الداخلي والخارجي على السواء. ولا يمكن قراءة التفاعل الثقافي والفكري بالمغرب مع التغيرات الدولية إلا في سياق التطور والحياة والاستجابة لحاجيات الأمة وهي التي تنخرط في محيطها وترفض العزلة والتطرف .
 
 وارتباطا بالواقع الأكاديمي والجامعي فإن الأمر يعكس فعلا تدبيرا جيدا للتنوع والانفتاح اللغوي والثقافي. والجامعة كانت ولا تزال ميدانا لإثراء رصيد الأمة من المعارف ونافذة للاطلاع على الثقافات بلغاتها وعن طريق الترجمة وإرسال البعثات الطلابية لاستكمال الدراسة والمثاقفة مع الآخر. ولا يمكن الحديث عن محاولة للتَّلميع لأن هذه العبارة تحمل مدلولا سلبيا يشي بالغش في الشيء الملمَّع الذي يظهر شحما وراءه ورم بتعبير المتنبي. والنموذج المغربي أكبر من هذه المغالطة، فالتنوع والانفتاح وفهم الآخر وتقديم صورة واضحة عن النفس كلها متطلّبات لها ما يبررها في عالمنا الحاضر. كما أن الاعتراف بكل المكونات الثقافية المشكِّلة للأمة هو من صميم الخصوصية المغربية ذات الروافد المتعددة والوطن الذي يسع الجميع .
 
 
تم التنصيص على هذا التنوع في ديباجة الدستور، وتمت الإشارة إلى أن الهوية المغربية لها روافد عديدة أمازيغية وعربية وعبرية وإفريقية. هذه الفسيفساء أتعتبر غنًى أم العكس؟
 
يجب أن نعترف أن الدستور المغربي من بين الدساتير العالمية المتطورة والتي تعكس الواقع الحقيقي للبلاد وترسخ للثوابت الحضارية والسياسية بوضوح وشفافية. ويكفي أنه نال ثقة المغاربة في استفتاء مشهود. وتمت قراءة الوثيقة باستفاضة من طرف المحلِّلين المغاربة والأجانب وأثنت الأغلبية على مضامينها .
 
ولأن الدستور هو أسمى وثيقة مرجعية معبِّرة عن نظام وجغرافية ومكونات المغرب وثوابته، فإن الحديث عن الروافد المتعددة والتنصيص على الأمازيغية والعربية والعبرية والإفريقية والحسانية يعدُّ من صميم الفكر الاجتماعي والسياسي "للدولة الأمة" بالمغرب. وهي فسيفساء بالمعنى الجمالي والجميل للعبارة إذ يتحقق فيها التكامل والانصهار في بَوْثَقَة "الوطن والواحد" ذي الروافد المتعددة. وهذا الاعتراف الدستوري لم يكن موضع شك قبل التنصيص عليه. بل كان العرب والأمازيغ واليهود والأفارقة والحسانيون يتعايشون في هذه الرقعة ويتصاهرون ويتبادلون المنافع ويحمون هذه الأرض من الأغيار، وعندما تسأل أحدهم عن هويته يقول لك: أنا مغربي، وليس : أنا عربي، أو يهودي، أو أمازيغي.... وهذا ما يدفع بي إلى القول: إن التنوع والتعدد هو سيمة الهوية المغربية. وإن جوهر وروح النظام الملكي هو تمثيل كل هذه المكونات وضمان مكان لها تحت الشمس في هذه الأرض وفي هذا الوطن الكبير بأبنائه ونظامه ووحدته وتنوعه .
 
 
الثقافة في المغرب تخصص لها ميزانية لا تصل في كثير من الأحيان 2% من الناتج الداخلي الخام وهو ما يزيد من إضعافها؟
 
ينبغي  أن نتفق بداية على مفهوم "الثقافة". وأود أن أشير هنا إلى أنها رصيد لا مادي ينبغي أن يوزن بميزان الذهب. ولقد أصبحنا نعيش تردِّيا ثقافيا بسبب ما يتم حشره عُنوة في هذا المجال تحت مسمّيات وعناوين مختلفة تدغدغ المشاعر في ظاهرها وهي لا تمتّ إلى الثّقافة بصلة. وأدعو هنا إلى إنقاذ الثقافة المغربية من المتسوِّلين وذوي العاهات الفكرية الذين يدافعون عن المنافع الشخصية باسم التمثيل الثقافي والهوية المغربية، حتى إذا ساءلنا منتوجهم الثقافي لم نجد شيئا يذكر، لكنهم يملؤون الدنيا صراخا وعويلا. وأهمس في آذانهم أنه لا يمكن أن نطالب بالربح من الميدان الثقافي قبل الاستثمار والمغامرة وحساب المخاطر والبناء والعطاء .
 
وأنا أشاطرك الرأي أن الميزانية المخصصة للمجال الثقافي ضعيفة جدّا بالمقارنة مع الانتظارات الكبيرة. وهذه المعادلة تقتضي منا أن نوازن بين الموجود والمأمول وبين العمل والنتائج وبين الاستثمار وحجم الأرباح .
 
إن الخلل أحيانا يرتبط بضعف التمويل والإشهار والمتدخلين لكنه أيضا لا يبتعد عن ضعف التكوين وكثرة الوسطاء والمتدخلين وميوعة مفهوم الثقافة بحيث ندرج فيها كل شيء مهما كان بعيدا وغريبا عنها. لكن هذه المعطيات لا تبرر هزالة الميزانية كما تشكل منطلقا محوريا لمساءلة المنتوج الثقافي؛ لأن ما يصرف أحيانا على مشاريع تحمل اسم المهرجانات الثقافية، وهي لا تمت إلى الثقافة بصلة، يضعنا أمام إشكالات وتناقضات حقيقية .
 
إن المسألة الثقافية هي جزء من رصيد الأمة ولا ينبغي أن تخضع للمزايدات السياسية والنقابية. كما يجب أن يتولاها أهل الاختصاص لأن تسويق صورة المغرب وتقديم الوجه المشرق والحضاري لهذه الدولة العريقة يجب أن يتعالى على كل الحسابات الضيقة .
 
  
يبدو حاليا أن الثقافة المغربية فرضت نفسها على كل الدول المجاورة شمالا وجنوبا بالنظر إلى الانتشار الواسع لهذه الثقافة سواء فيما يتعلق بمستوى الباحثين والجامعيين وقوة أفكارهم أو من ناحية انتشار هذه الثقافة عبر الأغنية وأطباق الأكل والموسيقى، بالإضافة إلى مكانة المفكرين والمثقفين وإنتاجاتهم داخل المجتمعات المجاورة، ولذلك يرى الكثير من الجامعيين أن المغرب بمثابة امبراطورية. كيف ذلك؟ .
 
- إن الحديث عن كون الثقافة المغربية فرضت نفسها على كل الدول المجاورة فيه الكثير من المبالغة، وإن شئنا أن نليِّن الكلام فيه الكثير من الاعتزاز بالنفس. وينبغي أن نأخذ بالجوانب الإيجابية منه، ونتفادى المخاطر. وحتى نتجنب الغرور الثقافي أقول إننا في الحاجة إلى المزيد من العمل والتجويد والتمكين الثقافي. لكن ولكي لا نغمط المثقف المغربي حقه أقول إن المغرب يتوفر على طاقات فكرية وإبداعية فرضت نفسها وطنيا ودوليا .
 
وينبغي أن ننظر إلى هذه الطفرة النوعية – خاصة على المستوى الجامعي والموسيقي والطبخ واللباس- نظرة موضوعية. فهي ليست وليدة اليوم ولم تكن رعدا في سماء صافية بل نتاج تراكم فكري وحضاري وجامعي ومجتمعي متواصل، ونتيجة لسياسة الدولة المغربية التي اختارت الانفتاح والتأثر والتأثير في المحيط لأننا لا نعيش في جزيرة معزولة .

إن التسويق الثقافي الجيد من شأنه حماية الموروث الثقافي من الاندثار والسرقة والانتحال. والجامعة المغربية تقود هذه القاطرة مدعومة بكل الغيورين على الثقافة المغربية. والأكيد أننا نسير بثبات لكننا لا نزال بعيدين عن محطة الوصول، وليس هذا أوان الإعلان عن الهيمنة الفكرية والثقافية مع كل الدول المجاورة، أمامنا الكثير من العمل لنقوم به، خاصة مع الأجيال الحالية المخترقَة بالنماذج الدخيلة والتي تحتاج إلى تصحيح منظومة القيم لديها وإعادة النظر في فهمها "للنموذج" .


 وأمام المدرسة المغربية والجامعة المغربية والجمعيات المدنية المغربية خانات فارغة يجب ملؤها وفرصا للاستدراك والتصحيح. فلا يجب الحديث عن الإمبراطورية قبل استرجاع كل الثغور وتحقيق الامتداد الحقيقي وبناء الإنسان المغربي بمواد مغربية تربطه بجذوره وثقافته وقِيمه .


•  نلاحظ أن هناك ريادة للمغاربة ثقافيا ورياضيا وفنيا وفي عدد من المجالات في حين هذه الريادة لا تنعكس بالصورة المطلوبة على المستوى الاجتماعي والوضع المادي للمواطنين. ما أسباب ذلك في تقديرك؟


سبق لصاحب الجلالة أن قال: "أين الثروة؟" وذلك قبل عشر سنوات من اليوم. وهو سؤال يضمر الكثير من الأمور التي يجب معالجتها. فالسؤال الملكي لم يكن استفسارا أو استخبارا، وإنما هو سؤال إنكاري، يستنكر اختفاء الثروة في بلد غني بموارده مثل المغرب .

وهذا السؤال الموجه إلي، والقائل بالريادة المغربية في عدة ميادين رياضية وفنية وثقافية بالموازاة مع غياب المفعول المادي والاجتماعي على المواطنين حيّر الناس قبلي وقبلك. بسبب التفاوت الاجتماعي الحاصل بين مختلف مكونات هذا الوطن الكبير . 

إن القراءة الاقتصادية والاجتماعية لهذا المشكل تتخذ أبعادا متشعبة ومرتبطة بقطاعات مختلفة وأولويات وإكراهات ورهانات؛ وكلها مسارات ذات علاقة بالعولمة والتحول الاقتصادي الغربي، وصور تكريس الهيمنة الاقتصادية والعلمية والثقافية واللغوية على الدول الضعيفة، حتى إذا عالجت الدولة الضعيفة مرضا من الأمراض الاجتماعية ظهرت أعراض مرض آخر. وأقصد هنا أن الهشاشة الاقتصادية للمجتمع المغربي ليست علامة مغربية مسجلة، بل هي ظاهرة كونية . 


فالهشاشة الاقتصادية مرض يصيب فئات متنوعة وفي كل الدول لكنها تتفاوت في مفعولها وآثارها الجانبية. والمغرب ليس استثناء في ذلك ولن يكون. بل إنه يعاني مثل كافة الأمم لكنه لن يستسلم.  وهناك مؤشرات تدل على تحسن ملحوظ في الخدمات المقدمة للمواطنين وفي الرواتب والتغطية الصحية والمرافق العمومية، ونحن نعيش مخاضا سيفضي إلى تقلص الفوارق واستفادة الناس من الثروة بشكل عادل. والمغاربة عموما لا يدعون إلى المساواة ولكنهم يدعون إلى العدل .


•  تقرير النموذج التنموي الجديد الذي أشرفت عليه قبل كرونا لجنة برعاية شكيب بنموسى خلص إلى فكرة مفادها: أنه لا تنمية دون ثقافة قوية، إلى أي حد الفكرة مناسبة ومقبولة لبلد مثل المغرب؟

- ينبغي أن نشيد  بالجهود التي بذلتها اللجنة في جمع وكتابة التقرير الخاص بالنموذج التنموي الجديد، والذي تفاعل مع أفكار المغاربة بكل توجهاتهم وأطيافهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فهو نموذج للعمل التشاركي الهادف إلى الإجابة عن سؤال التنمية في المغرب: الواقع والمأمول .

وارتباطا بالسؤال، فقد كان موضوع التنمية والثقافة، أو علاقة الثقافة بالتنمية من موضوعات التقرير التنموي الجديد. ولم يكن السؤال الثقافي بمعزل عن العنصر البشري. ويتضح أن إثارة الهموم الثقافية وسَّع من مجال التنمية ليشمل أمورا أخرى كانت مغيبة في النماذج القديمة لأسباب مجهولة. ولقد أدركت اللجنة أن الثقافة مرآة المجتمعات ومن شانها أن تعطي تصورا حقيقيا وواضحا عن الماضي والحاضر والمستقبل، كما تتيح للآخر أن يتفهم مخاطِبَه وأن يحسن التعامل معه، فالثقافة تعبر عن الحاجات والرهانات، والمنتوج الثقافي وثيق الصلة بالثروة المادية واللامادية، وهو حتما يساهم في تنمية البلد ويفتح أبواب الاندماج الحضاري في المحيط الإنساني كما يخلق فرصا للشغل. ولا ننسى أن الدول المتقدمة في عصرنا الحالي تغزو العالم بلغتها وثقافتها وتفرض بالموازاة مع ذلك منتوجاتها الصناعية والفلاحية عبر المدخل الثقافي واللغوي، كما أن الثقافة هي الداعم التنموي للسياحة .


•  أعود بك إلى المستوى الميداني: التعليم في المغرب تحول إلى حقل للتجارب، في كل مرة نلاحظ أن هناك وصفة من أجل إخراج المنظومة التربوية من عنق الزجاجة، ما هي برأيك أسباب تعثر المدرسة المغربية وعجزها عن أداء دورها التربوي والتثقيفي؟


- أقر أن هنالك إصلاحات عديدة قامت بها الدولة لتجويد المدرسة المغربية عموما والجامعة خصوصا. كما أؤكد أن هذه الإصلاحات كانت ضرورية وليست مفتعلة. فنحن نعيش في عالم تتضارب فيه المصالح وتكثر التجارب وتشتد المنافسة. والدولة المغربية ليست بمنأى عن كل التغيرات المرتبطة بالعولمة وتغوّل الاقتصاد الرأسمالي والتحولات المتسارعة على المستوى الدولي .

ولهذه الاسباب أرفض مقولة "حقل التجارب" لأن المغاربة يغارون على وطنهم وأربأ بهم أن يتخذوه "حقلا للتجارب". فهناك نوايا صادقة للنهوض بالتعليم في المغرب، وإرادة ملكية قوية وصادقة للرّقي بالمدرسة والجامعة المغربية. وكل من يعمل في هذا المجال لا يمكنه أن يتعارض مع الرؤية الملكية الطامحة إلى الجودة والتمكين والرقي .


لكن مع ذلك هناك تجارب فاشلة، إما لسوء التقدير أو بسبب التسرع أحيانا  وإما لتسارع الأحداث وتجاوز التجارب والحاجة إلى تجارب أخرى .

غير أن الجميع يتفق على تشخيص المرض ومعرفة مكامن الخلل. ولا ينبغي أن نسوِّق للناس أفكارا مغلوطة، فالشأن التعليمي بالمغرب لم يكن قط قضية فردية أو شخصية، بل كان على الدوام قضية أمة ودولة، وهذا ما يبرر تدخل كل المعنيين في تحقيق الطفرة النوعية وتجاوز التعثرات وبناء صرح تعليمي مغربي طموح .


ويجب أن نقطع مع الصراعات الشخصية في انتقاد الوضع التعليمي بالمغرب، والمتاجرة بالتعثرات لتحقيق المكاسب الذاتية الرخيصة. إن التعليم يحتاج إلى كل أبناء الوطن دون إقصاء، وإلى كل المتدخلين دون تعالي، وإلى كل الأحزاب السياسية وكل هيئات المجتمع المدني دون مزايدات. فالمسؤولية يتحملها الجميع وثمار النجاح سيقتطفها الجميع، كما أن الفشل سيصيب الجميع إذا لم نتمكن من إنقاذ المنظومة التعليمية كي تستجيب لرهانات المرحلة وتكون في مستوى طموحات المغاربة. 
• هناك من يقول بعدم وجود أي بحث علمي في المغرب. هل هذا صحيح؟

- هذا التعميم يسمى في الحجاج: مغالطة التعميم. ولأنه مغالطة فهو يحتاج إما إلى دليل يدعمه لكي نأخذ به، أو إلى تجاهله. وبما أنه كلام غير مسنود بأي دليل علمي يدعمه، فلست أجد ما أجيب به غير المطالبة بالدليل. فلن أكون منبرا لتسويق المغالطات وضرب المكتسبات المغربية في ميدان البحث العلمي .


•  على المستوى البيداغوجي والديداكتيكي هل هناك تميز أم العكس؟

- هناك تنوع. لكن تحقيق التميز لا يكون دائما متاحا. نحن أمام تجارب تمتلك كثيرا من الإيجابيات وتعتريها بعض النواقص وإلا لماذا نتكلم عن الإصلاح والتقويم؟ 

أما على المستوى المنجز فإنه يحق للمدرسة المغربية والجامعة المغربية أن تفتخر بالنتائج البيداغوجية والديداكتيكية المتحققة على مستوى التنظير أو الممارسة. فهناك حركية مستمرة وفهم للوضعية واقتراح حلول وتنويع في الكتاب المدرسي يراعي السياقات الجهوية والحاجيات البيداغوجية وكل ما نحتاجه الآن هو أن تتاح الفرصة  لأهل الاختصاص  لتقديم المنجز وإفهام الناس وإبراز الجهود المبذولة. وقد لاحظت أن الكلام عن التعليم المدرسي والجامعي أصبح موضوعا في وسائل التواصل الاجتماعي لكل من هبّ ودبّ، وتم تغييب الخبراء والمفتشين والكتّاب ومعدّي المقررات وفُتح الباب للتُّجار وسراق التجارب والمهربين وصناع الأزمات. وهذا ناقوس إنذار كي لا يتكلم في البيداغوجيا والديداكتيك والكتاب المدرسي غير أهل الاختصاص ممن لهم دراية بالسياقات والتجارب التربوية الوطنية والدولية . 


• - من بين السلبيات والثغرات التي تعانيها المدرسة المغربية: عدد ساعات الغياب التي تعد بالآلاف، كما أشار إلى ذلك التقرير الأخير للمجلس الأعلى للحسابات. هل في نظرك التغيبات كيفما كان نوعها يمكن أن تؤثر سلبا على التربية والتعليم؟

ج- حتما تؤثِّر سلبا. وهي من الآفات التي يجب محاربتها، فالتعليم أكبر من أن يكون وظيفة يأخذ عنها الأستاذ مرتَّبا شهريا، إنه مسؤولية كبرى لتنشئة الأجيال ومحاربة الجهل وإنارة العقول وتكوين المواطن الصالح. ولا مجال فيه للغش أو التحايل على القانون مهما كانت المبررات. كما لا ينبغي أن تكون الشهادة المَرَضِيّة التي يمضيها الطبيب شهادة زور لتبرير عمل غير قانوني وغير خلقي. وإن من يختار التدريس يقوم بذلك عن وعي برهاناته وإكراهاته ويُقبل على مسؤولية مرتبطة بالإنسان في مرحلة عمرية خطيرة تقتضي الصدق والإخلاص والتضحية. وكل تبرير يأتي بعد ذلك للتَّهرب من المسؤولية التربوية فهو لا يصمد أمام القانون وأمام الضمير الإنساني. ولهذا ينبغي أن نحارب الغياب الفكري والتّغَيُّب الجسدي وأن ندافع على كرامة الأساتذة المخلصين حتى لا تتلطخ سُمعة الأساتذة المغاربة المخلصين بأعمالِ فئة انتهازية قليلة تسيء للتعليم ورجاله ونسائه ممن ساهموا في تكوين الأجيال وتخريج الأطباء والمحامين والجامعيين والمهندسين، وكل الأطر التي يزخر بها المغرب ويفتخر . 


• شاركت أخيرا في لقاء هام نظمته مدرسة الحديث الحسنية في موضوع العلوم الشرعية والعلوم الإنسانية في المؤسسات الجامعية، كيف تنظر إلى وضع الجامعة بالنظر إلى وجود العِلْمين جنبا إلى جنب داخل الجامعة المغربية، هل هناك تكامل أم تنافر؟

-   إن علاقتي بجامعة القرويين هي علاقة انتماء وتخرج، فقد درست بكلية اللغة العربية عشرة أعوام متواصلة ثم توجتها بالحصول على الدكتوراه وهي كلية كانت تابعة لجامعة القرويين. وقد قضيت بها إلى حدود اليوم عشر سنوات طالبا  وثلاثا وعشرين سنة أستاذا جامعيا منها خمس سنوات عميدا، وكان مجيئي إلى دار الحديث الحسنية بدعوة كريمة من إدارتها لحضور هذا الملتقى العلمي عن العلوم الشرعية والعلوم الإنسانية. ونحن في كلية اللغة العربية بمراكش نتقاطع مع دار الحديث الحسنية في الكثير من الأمور وأهمها الاهتمام بالعلوم الشرعية واللغة العربية. وندرِّس اللغة العربية في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وفي الشعر والنثر. كما ندرِّس الأدب والنقد بشقيهما القديم والحديث ونهتم بالنحو والبلاغة وغيرها من الفنون الأدبية واللغوية. وتعد دار الحديث الحسنية من الروافد التي تمدّنا بالأساتذة الجامعيين خاصة في العلوم الإسلامية .


 أما عن وجود العلوم الإنسانية جنبا الى جنب مع العلوم الشرعية فهو وجود حتمي بفعل التكامل بينهما ولا غنى للغة العربية عن مصادرها الشرعية، كما لا تستغني العلوم الشرعية عن اللغة العربية في الفهم والتأويل. ولست آتي بجديد إذا قلت إن قواعد اللغة العربية والدرس البلاغي العربي نشأ في حضن تفسير القرآن والحديث النبوي الشريف. كما لانعدم الشواهد الشعرية والنثرية في مصادر العلوم الإسلامية، بنفس الحضور الذي يكون للقرآن الكريم في المصادر الأدبية واللغوية، والشيء نفسه يقال عن الأصول والمنطق وغيرها من العلوم المتقاطعة مع اللغة العربية .



•  هل يقنعك مستوى الطلاب حاليا وما هو الفرق بينهم وبين طلبة السبعينات في القرن الماضي؟

- لقد درست في الجامعة  المغربية وتخرجت نهاية التسعينيات. ثم التحقت بهيئة التدريس بها في بداية  الألفية الثالثة. ولهذا سأتكلم من منطلق تجربتي حتى لا أتطاول على مرحلة لم أعش تجربتها .

وجوابا عن سؤالك: إن مستوى الطلاب كان متفاوتا عبر الأجيال والعصور. بحيث نجد القوي بجانب الضعيف. لكن استكمال المسار الجامعي والوصول إلى المراتب العليا عادة ما يكون من نصب الأقوياء والصابرين. لأن المسار الجامعي قد يمتد أحيانا ليصل الى عشر سنوات أو أكثر، تتوزعها الإجازة والماستر والدكتوراه. وهي مدة غير هينة بالنظر إلى العمر الافتراضي للإنسان .

لكن الحديث عن التفاوت لا يلغي الشعور بالأزمة الحالية. مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي والإدمان عليها وفراغ المكتبات والخزانات الجامعية من الطلاب. والجامعة لا تلقِّن المعارف وإنما تساعد على بناء العقول القادرة على البحث، والبحث لا يكون خارج المختبرات والمكتبات، ولا يكون بالاتكاء على المعلومات المتاحة في النِّت والسرقات العلمية المفضوحة والكسل، وعلى طلاب العلم أن يدركوا أهمية استغلال وجودهم في الجامعة لبناء ذواتهم ونحت مسارهم العلمي لأن العالم يعج بالمنافسة والقعر مزدحم والقمة لا يبلغها إلا المتمكنّون .     
  

س13-   قبل تسعينيات القرن الماضي كانت لشهادة الإجازة قيمة علمية، لكن الآن الإجازة لا تعني شيئا، وحلت محلها شهادة الماستر وهو ما يعني أن مستوى التحصيل تراجع، ما تفسيرك لذلك؟

ج- إن شهاد الإجازة لم تتوقف ولم يحلّ محلّها أي دبلوم آخر. وإنما تغير النّظام بحيث كنا ندرس الإجازة ثم الدراسات المعمقة ثم الدراسات العليا ثم الدكتوراه. فانتقلنا إلى نظام (LMD) أي إجازة وماستر ودكتوراه.  وثم تخفيض سنوات الإجازة من أربع سنوات إلى ثلاثة، لكن مع اعتماد ستة فصول دراسية بمعدل فصلين كل السنة ومضاعفة عدد الساعات الدراسية للطلاب وتمديد الماستر إلى أربعة فصول بدل سنة واحدة في المعمقة وجعل الدكتوراه في مدة زمنية بين ثلاث وست سنوات لا تتعداها. وهذه المعطيات تعطي صورة واضحة عن برنامج التكوين ونوع الدبلومات ودرجاتها . 


وإحداث الماستر لا يزيل عن الإجازة قيمتها، ولكنه يَفْضُلها لأن الماستر يتطلب سنتين بعد الإجازة ولا يُتاح للعموم بل للمتفوقين وبحساب معدل الإجازة ومباراة الدخول إلى الماستر .

وعموما إن الحصول على أي دبلوم مهما كان نوعه لا يعكس القيمة العلمية الحقيقية للحاصل عليه بل يعني فقط بلوغه إلى مراتب تسمح له بممارسة البحث العلمي إما بتعاون مع المشرف في الإجازة والماستر، وإما بمفرده بعد الحصول على الدكتوراه. والدبلوم لا يشكل نهاية المطاف بل هو الخطوة الأولى في مسافة الألف ميل .


س14- انتقل المغرب من خمس جامعات في بداية تسعينيات القرن الماضي إلى ثلاثة عشر الآن، رغم ذلك فإن نسبة الأمية مازالت مرتفعة والبحث العلمي لم يتطور بالشكل المطلوب، وفي نفس الوقت نلاحظ تطورا في جوانب أخرى ، وكأن المغرب يسير بسرعتين  كيف تنظرون إلى هذه المفارقة؟


ج- ينبغي أن نثمن جهود الدولة في توسيع العرض التربوي والجامعي، خاصة بإنشاء الجامعات والكليات في مختلف جهات المملكة. فإن هذا الزَّخَم دليل على العناية بالجامعة واستجابة لحاجيات السكان. لكن الحديث عن الأمية في السياق الجامعي لا يكاد يستقيم. فالجامعة ليست مسؤولة عن محو الأمية، وهي تستقبل طلابا قضوا على الأقل اثنتي عشرة سنة من الدراسة قبل الوصول. ثم إن الأمية تحتاج منا إلى توضيح، فمن هو الأمي؟ هل هو الذي لا يتقن أية لغة؟ أم هو الذي يتقن لغة واحدة؟ هل الأمي هو الجاهل بثقافة بلده؟ أم هو الجاهل بثقافة الآخر؟ هل هو الجاهل بوسائل التواصل الحديثة والانترنيت أم هو الجاهل بالحاسوب والألواح الالكترونية؟


وفي المقابل من هو المتعلم غير الأمي؟ هل هو العارف بالعربية؟ أم الفرنسية؟ أم الإنجليزية؟ أم الإسبانية أم كل ذلك؟
إن الأمية مصطلح فضفاض وإن الإنسان سيبقى ناقصا مهما بلغ مصداقا لقوله تعالى: "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا"، وإن ما يحتاجه بلدنا اليوم ليس هو تعلم الحروف الأبجدية وإنما تعلم كيفية العيش والتعايش، وبناء تصور جديد للمدرسة والجامعة يأخذ بعين الاعتبار المهن الجديدة وما تتيحه من فرص في مجالات الرقمنة والرقائق الالكترونية والحاسوب والفلاحة والصيد البحري والبناء وكل من يتصل به من حِرَف وغير ذلك مما لا يجد مزاولوه وقتا للفراغ. إننا بحاجة إلى بناء الإنسان وتغيير العقليات. فالعلم الشريف والعمل النافع هو الذي يصون كرامة الإنسان من البطالة وينفع المجتمع والوطن. "أما الزبد فيذهب جفاء". يجب أن نقطع مع الشكليات والقشور أثناء الحديث عن التعليم والأمية. علينا أن نضع في الحسبان أي تعليم لأي مجتمع؟  وأن نوجِّه الشباب إلى ما يصون كرامتهم ويضمن لهم العيش الكريم بعد نهاية المشوار الدراسي، وليس إلى الألقاب الفارغة، فإن المتخرج العامل أفضل من الدكتور العاطل .
     

Sara Elboufi
سارة البوفي كاتبة وصحفية بالمؤسسة الإعلامية الرسالة مقدمة البرنامج الإخباري "صدى الصحف" لجريدة إعرف المزيد حول هذا الكاتب



الاثنين 16 أكتوبر 2023

              














تحميل مجلة لويكاند






Buy cheap website traffic