فن وفكر

مقالات في الشعر و الإبداع




_  1 هل من إدراك لماهية الشعر؟!...
... و من أصعب من الشعر قصيدة أو كلمة تعبر بإيجاز، عافية عن كتب و مجلدات عما تراه البصيرة و ينقله القلب وحيا منه و إليه و ما زال لم يدرك بعد ماهية أن يكون شاعرا و لا الشعر في حقيقة كنهه، من غير ذاك الذي يصدره من تجليات و مشاعر و أحاسيس تقربنا منه و لا تحدده تعريفا شافيا..
إنه نور مجهول مصدره..
أثر لوجود غير ملموس و تحد قاهر للإدراك و الزمان معا...
للشعر قدرات خارقة على التجريد تحليقا بين 
الممكن و المحال و إنفلاتا من قبضة المحدودية إلى كون اللامحدودية الأرحب
.  تحياتي بحجم شساعة الشعر إبداعا و خلودا 


-  2           بعض من ماهية الشعر
.  الشعر عالم من المعاني و الصور و الرموز، عالم خارج عنا محيط بنا، هو كائن مكتمل السيمات و الصفات متراكم متنامي منذ البدئ، ينطوي على أسرار الحقيقة المنفلتة و كنه الوجود المبهم الغامض، إنه كائن بذاته مستقل عنا يخترق الإدراك و الأحاسيس في دواخلنا العميقة، يأتينا بعض صداه إلهاما هائما عبر الأثير المنتشر في الفضاء اللامحدود و من خلال مسارات الزمن الكوني الخالدة...
و لأن الألسن المتداولة في عالمنا البشري  لا ترقى إلى التعبير عنه و ترجمته بوضوح فإنه يأتينا عبر ما تسمح به ملكات الإبداع من تشكيلات و صور تعمل نسبيا على ملامسة كنهه   و تبسيط إدراك معانيه المستعصية و المنفلتة باستمرار...

.   و من تمة فالشاعر هو كل فرد حبته الطبيعة  ملكة إلتقاط إشارات عالم الشعر و القدرة على ترجمتها و نقلها عبر تشكيلات و صور إبداعية...
 
.  و بما أن تجربة التواصل مع عالم الشعر تقوم على لغة الأحاسيس و المشاعر فإنها تبقى تجربة ذاتية تتميز بخصوصيات  كل شاعر عن حدة، و هذا ما يبرر فعلا ظاهرة تكرار تعدد و تنوع القصائد و الشعراء أحيانا كثيرة حول نفس المواضيع و الصور و المعاني و هو ما يعكس محاولات الإبداع  الحثيثة لفهم و إدراك إشارات و أسرار عوالم الشعر
                                               
- 3   هل ماتت الفلسفة مقارنة بالشعر؟
.  المتافزيقا قد تتوقف للتأمل و النظر في مفاهيمها،  بالنسبة للفلسفة الوضعية و الإبيستمولوجيا و العلوم التطبيقية،...لكنها لا تتوقف نهائيا باعتبارها آلية محفزة للعقل و المنطق رغم زخم ضغوطات التكنولوجيا و المعرفة الرقمية...
.  و من تم فالشعر باعتباره عالم المشاعر و الأحاسيس و بكونه محاولة مستمرة عبر  الزمان و المكان للتعبير بصور و تشكيلات إبداعية عن ملامسته لِكُنه الحقيقة المتفلتة دوما و المتسمة بطابع الغموض و الإبهام.
.   الشعر إذن من حيث هو كذلك فهو محفز أساسي للمتافزيقا و بالانعكاس أيضا على آليات العقل  ( منطق، فلسفة وضعية، علوم، تكنولوجيا، معرفة 
رقمية و إبيستمولوجية،... )

-  4   الشعر و التجريد
.  الشعر، باعتباره عالم من التصورات و التشكيلات البالغة مستوى عال من    التجريد، يظل محفزا للميتافزيقا في كافة موضوعاتها و أبعادها الروحية و المادية و علاقاتها الجدلية بين الذاتي. و الموضوعي و بين الواقعي المحسوس و المعنوي المثالي في إعمال ورشات عقلية مفتوحة  على مصراعي الموضوعات الفكرية و النفسية و الأخلاقية و المادية...
 
.   كما أن الشعر يدوم سجلا موضوعيا لتاريخ الإبداع اللغوي و الفني و دليلا  ماديا على تمفصل و تطور تفاعل الإحساس و الشعور الإنساني مع كنه الوجود و آثار الحقيقة المتمنعة عن الإدراك العقلي الصرف...

- ( 5 )   بين الإبداع و التقليد                              
.  المبدع إن فقد عرش بصمته الإبداعية الخاصة، التي تميزه و تفرده عن ضجيج عالم ينضح بكم هائل مما يفترض أنها إبداعات خامة متراكمة ككثبان رمل متحركة أو أمواج زبد متكسرة على صخر النقد و الدوام، فإنه يصير حتما مجرد صانع تقليدي يكرر نفس الإنتاج و في أرقى حالاته بأشكال مختلفة فقط لا غير...
 
-  6  الإبداع و النقد القبلي                                 
.  نعم يعاني المبدع  مع تواتر الذاتي و الموضوعي (نظرا و إعادة النظر) في إبداعه و علاقته بذوقه الخاص و ذوق المتلقي المفترض/ المتعدد تشذيبا و تهذيبا لإنتاجه...

و مع ذلك فإبداعه يبقى في حاجة دائمة لنقد الجمهور و المتخصصين. و المعجبين..
تحياتي المضيئة
- 7  الشاعر عصره و أكثر                                   
. يكون الشاعر متميزا دوما خصوصا إذا كان مثقفا عضويا. مشرقا كشمس الربيع، يبث الحياة في الحياة، مواكبا لقضايا عصره بين الناس ك ( الطيب المتنبي. بابلو نيرودا، تي اس أليوت محمد درويش، أبولون مايكوف، طاغور. نزار قباني،  أبو القاسم الشابي، شارل بودلير،  وول سونيكا... إيدغار ألان بو، ... ) و اللائحة طويلة...
 
. فإن الشعر كالبدرة يحتاج إلى الوقت و تكاثف ظروف إبداعية طبيعية لتظهر أزهار براعم نبتته الأصيلة و ثماره المتعددة الطيبة النكهات...
.  تربة الشعر إذن ذاكرة جمال بعيدة عن الفهرسة و الترتيب و الرتابة.
.    فمرحى لمن تألق إدراكا لهذا  الميكنيزم الإبداعي الخفي...                         
.  أن أكون شاعرا أو لا أكون هي المتاهة الكبرى نفسها في الحياة...
.  خيال العتمة أكثر توهجا من التوهج
.  الكلمة مهما قلت حروفها فهي عالم مليئ بالضجيج
.  الحرية شعرا ليست تحليقا خارج القفص فقط إنما هي التحليق في فضاء النفس و العقل و الإبداع دون عوائق
                                       
-  8  لست شاعرا
.  إنما الشعر مجرد التقاط من أثير        
حينما يدرك الشاعر أن كل الشعر موجودا قبلا في الكون كالأثير و أنه يشبه الرحيق الذي يأتي منه العسل مختلف ألوانه رحيقا تحوله النحلة إلى عسل لأنها الحشرة الوحيدة التي حبتها الطبيغة بهذا الدور تماما كالشاعر، فهو إنسان جبلته  الطبيعة بقدرة إلتقاط المعاني و الصور و المشاعر و صياغتها شعرا...
إذاك يدرك أنه ليس شاعرا و لكنه محبا لأثير الشعر... كالنحلة فهي ليست عسالة لكنها مُحبة للرحيق تحوله إلى عسل...              

-  9  شعر الزجل                                    
.  يعتبر الزجل شعرا عاميا من التراث الشعبي مثقلا بحمولة وعي اجتماعي و سياسي معبرا عن المخيال الجمعي في تمثلاته للثوق إلى الارتقاء و التحرر من الدونية و الظلم و تسلط
 
فكلمات مثل << الزمان، البحر، العافية أو المخزن،...>> تأتي في قصائد العيطة المغربية الأصيلة مفعمة بلهيب المواجهة ضد تسلط و ظلم قياد زمان، أو مع قصائد الملحون في تعبيراتها عن شغف الحب و الحرمان المتجلى بالآهات و الأنين بين ثنايا كلمات و أوزان القصيد...

.  الزجل إذن يتمظهر شعرا بصيغة المعانات و الحلم و أمل الخلاص و بصيغة الاحتجاج الشعبي و الرفض و التمرد حتى...

.  الزجل من حيث أنه قول تراثي  متناقل شفويا أو مدونا يلتقي مع الشعر الفصيح و الرسم و التشكيل و الموسيقى و التعبير الجسدي، الخ... في ذلك الزخم من المشاعر و الأحاسيس و الصور و المعاني المتواترة إبداعا و المتجددة باستمرار و إلحاح...
.
 ومن تمة فهو الشغب و التحريض على الوعي الجمعي و إيقاض الأحاسيس و المشاعر التي أصابها الخمول و النوم بتأثير المألوف و اليومي الثقيل المتعب، المحبط و الممل...

-  10          في ذكرى وفاة الشاعر نزار                                 
.  فعلا الشاعر نزار قباني كان له وقع و تأثير كبيرين في أنفسنا و مخيلاتنا، معه و مع بدر شاكر السياب و الماغوط و درويش و أدونيس و آخرين،... إكتشفنا الشعر الحر و انبهارنا باعتباره ثورة ثقافية تتجاوز التقليد و القديم و تتمرد على القواعد الصارمة المفروضة على الإبداع و التحرر من القصيدة العمودية التي لا ننكر أنها إلى جانب القرآن الكريم يعود الفضل لهما و الفصل في صقل مواهبنا اللغوية، قبلا مع ( المسيد) و حفظ ما تيسر من سور القرآن ثم مع المدرسة و المكتبات العمومية و إقبالنا على المطالعة و القراءة الحرة بشغف و نهم لذيذين، إطلاعنا على شعراء المعلقات و  أبي الطيب المتنبي إلى أحمد شوقي و حافظ إبراهيم و محمد بن إبراهيم شاعر الحمراء و الشاعرين أحمد و حسن الطريبق، ...
.

 غير أنه يبقى أبو الطيب المتنبي و  نزار قباني لهما طعم خاص في تذوقنا كجيل من  الشباب، خلال ستينيات القرن الماضي في المغرب، متطلع إلى النموذج الإبداعي العميق و البسيط المتمثل في السهل الممتنع...
.   و ما زلت أذكر   تفاعلاتي الحماسية عن طريق مسرحة بعض قصائد نزار قباني واعتمادها كمادة  لتداريب مسرحية تكوينية في إطار مسرح الهواة لفائدة كثير من رواد دور الشباب في كل من مكناس و الرباط و سلا طيلة سبعينات القرن الماضي...
                                                                         
-  11        بدءا ممتدا قبل الختام : 
لما القصيدة ما لم تكن صمودا ضد النسيان و الاندثار؟
و لما الشعر وجودا إن لم ينفخ في خمول الذكريات الحياة؟
قصائد الشعر كالأمواج عناقها للشط لا يستكين ...
و من أبلغ من الشعر تعبيرا راقيا صادقا معتدلا...
نسائم الورود عطر و رحيقها الشعر و عسل النحل...
هو ذا الشعر الذي يكشف مكنونات اللغة الخفية
... و ما الشعر أيضا إن لم يكن 
ومضات نجوم في ظلام الكون.
.          

        بقلم  :  علي تونسي

Sara Elboufi
سارة البوفي كاتبة وصحفية بالمؤسسة الإعلامية الرسالة مقدمة البرنامج الإخباري "صدى الصحف" لجريدة إعرف المزيد حول هذا الكاتب



الاثنين 4 مارس 2024

              














تحميل مجلة لويكاند






Buy cheap website traffic