تكنو لايف

الذكاء الاصطناعي في الصحافة : بين الغموض والأسطورة


أعد المترجم محمد مستعد، ترجمة حصرية لـ "العلم"، تدخل في صلبِ اهتمامات الملف، والتي تسلط الضوء على طبيعة العلاقة بين الذكاء الاصطناعي واستعمالاته في الصحافة، بين الغموض وطابع الأسطرة . ويركز النص المترجم ، على ضرورة التعامل بحذر مع الابتكارات التكنولوجية التي أتت نتيجة الذكاء الاصطناعي في مجال الصحافة ، ذلك أن دور الصحافة يجب أن يظل نقديًا ، أو بحسب النص ، أن تظل الصحافة" كلب حراسة" تحمي الديمقراطية .



بقلم : جان هيوج روي ، جامعة كيبيك في موريال - كوليت برين، جامعة لافال - جولي غراماتشيا، جامعة لافال .
ترجمة بتصرف : محمد مستعد

تقديم المترجم:
"الذكاء الاصطناعي . ضربة قاضية أم دفعة للصحافة؟" بهذا العنوان تناولت المجلة المحكمة "دفاتر الصحافة التواصل"  Les cahiers de journalisme et de la communication التي تصدر عن جامعات في فرنسا وكندا ، ملفا خصصته لموضوع له راهنية كبيرة اليوم وهو : استعمالات ما يسمى الذكاء الاصطناعي في مجال الصحافة وغيرها مع تكاثر الأدوات المثيرة للدهشة في هذا المجال مثل الروبو الأمريكي Chat GPT 


ويتضمن هذا الملف المتميز دراسات نظرية وأخرى ميدانية تجريبية اعتمدت على مناهج العلوم الاجتماعية لتسلط الضوء على تحولات مهنة الصحافة  نتيجة استعمال هذا النوع من الذكاء داخل عدد من الصحف في الدول الغربية الكبرى .


تلاحظ المجلة أن هناك نوعا من التضخيم بل ومن "الأسطرة" لظاهرة الذكاء الاصطناعي . وتسعى المجلة إلى إزالة الغموض عن هذه الظاهرة وتوضيح أبعادها . وهو ما يطرح بقوة التساؤل التالي : متى ستكون عندنا دراسات من هذا النوع حول استعمالات التكنولوجيا في الصحافة في المغرب؟ 



مؤطر :  التحدي الأول الذي يواجهنا في هذا المجال هو تعريف معنى "الذكاء الاصطناعي" هذا المصطلح يناسب الباحثين في العلوم الاجتماعية لأنها متعددة المعاني .

مؤطر : يجب أن ألا ينسى الصحافيون أن الإنسان الذي يسعون لخدمته ينبغي أن يظل في مركز الاهتمام في ما يتعلق بالممارسات المهنية أو بالنسبة للبحث حول استخدامات الذكاء الاصطناعي .

مؤطر : ينبغي أن تحافظ الصحافة  على دورها التاريخي باعتبارها "كلب حراسة" يحمي الديمقراطية وأن تعمل على تطوير " مقاربة نقدية للذكاء الاصطناعي ولأشكال الحكامة المرتبطة به" .

مؤطر : هناكَ فرعين من الذكاء الاصطناعي الأول يهتم بالبيولوجيا وعلم النفس وبفلسفة الكمبيوتر والثاني في توسيع مجال المعلوميات وهندسة البرمجيات .


نص المقال

ما زال تطبيق الذكاء الاصطناعي جنينيا، بل يكاد يكون غائبا في جل الصحف الفرنكوفونية ، إلا أن ذلك يثير عدة استيهامات ومخاوف كما حصل مع التحولات التكنولوجية الأخرى الناتجة عن العصر الرقمي وقبله . إن التحدي الأول الذي يواجهنا في هذا المجال هو تعريف معنى "الذكاء الاصطناعي" . هذه الكلمة في الواقع تناسب تماما الباحثين في العلوم الاجتماعية لأنها متعددة المعاني . فهي تثير الحماس الذي يصب أحيانا في نوع من التقديس عند مناصريها والمروجين لها ، كما أنها كلمة تثير انتقادات قوية لا تنبني دائما على علم ومعرفة عند منتقديها وهو ما يجعل من الصعب تعريفها . لكننا لسنا الوحيدين الذين يجدون صعوبة في ذلك. حتى المتخصصون في الذكاء الاصطناعي يجدون صعوبة في تعريفها .



ففي عدد خاص من مجلة الذكاء العام الاصطناعي Intelligence General of Artificial Journal صدرت في 2020 نجد هذه المحاولة لتعريفه كالتالي : " إذا كان قراء مجلتنا يتوقعون أن يجدوا إجماعا حول تعريف الذكاء الاصطناعي ، فإننا نخشى بأنه ينبغي علينا أن نخيب آمالهم " .


ويرى الباحث روجي شانك  Roger Schank ، وهو أستاذ مبرز في جامعة نورثويسترن Northwestern وأحد المنظرين في هذا المجال أن هذه الكلمة تكشف في الأصل عن "ضعف في اختيار الكلمات" ذلك أنه يفضل عدم استعمالها نهائيا . والسبب ، في رأيه ، هو الطبيعة التشبيهية أو التجسيدية anthropomorphisme لهذه العبارة نفسها ، لأن كلمة "ذكاء" تحيل في جوهرها على ذكاء الإنسان ، وعلى ذلك الحلم القديم الذي يراود الكمبيوتر من أجل التشبه بالإنسان وتقليده ، وهو حلم مازال بعيدا جدا عن تحقيقه .


بعد الحرب العالمية الثانية ، كان يتم تشبيه آلات الكمبيوتر ب"الأدمغة الإلكترونية" . وهو تشبيه ما زال حاضرا في بعض اللغات مثل اللغة الصينية . وعندما ألف العالم الشهير ألان تورين Alan Turing كتاب "لعبة التشبه" The Imitation Game  في 1950 ألم يكن يحاول أن يتشبه بالدماغ البشري؟


إن إعادة إنتاج طريقة اشتغال الدماغ كانت محور تلك الندوة التي ولدت خلالها لأول مرة كلمة "الذكاء الاصطناعي" في 1955. وكانت الفرضية التي انطلق منها مجموعة من علماء الرياضيات والمهندسين خلال لقاء جمعهم في 1956 بجامعة دارثماوث Darthmouth  في ولاية "نيوهامشاير" الأمريكية هو التالي : " جميع مظاهر التعلم والخصائص الأخرى للذكاء يمكننا أن نقوم بوصفها، مبدئيا ، بما يكفي من الدقة بحيث يمكننا أن نصنع آلة تشبهها" .



وقد كان مقترحهم هذا مثيرا للانبهار لأن هؤلاء العلماء فكروا، إلى جانب قدرة الدماغ على التعلم، في تقليد ومحاكاة قدرات أخرى للدماغ مثل: القدرات اللغوية ، والحسابية ، والمنطقية ، والإِبداع و "مسائل أخرى كانت خاصة بالبشر حتى الآن" .
في الوقت الحالي وبعد مرور 65 عاما ، مازالت مثل هذه الأبحاث متواصلة وما زال آلاف الباحثين يشتغلون على ما يسمى ب "المعرفة الحاسوبية" .



لكن هل نستطيع القول إننا نجحنا في محاكاة وتقليد الإِبداع البشري؟ هناك بعض الجوانب والقدرات التي تم فعلا تقليدها مثل السمع والنظر وغيرها. لكن هل يمكن القول حقا إننا أصبحنا أمام " الذكاء "؟ والحقيقة هي أن علماء الكمبيوتر ما زالوا يناقشون هذه الفكرة. وهذا الاستعمال المتكرر لكلمة "ذكاء" جعل متخصصين مثل "ليندن" و"ديريكس" يطالبون ويلحون ، برجاء ، على أن نتوقف عن استعمال هذه الكلمة وهذا النعت . 


في الواقع إن ما يسمى بالذكاء الاصطناعي هو ببساطة فرع من فروع علم المعلوميات التي تعمل "غالبية مشاريعها على حل وتسوية مهام معزولة ومحدودة" . وداخل الذكاء الاصطناعي يمكن أن نميز بين فرعين كبيرين من التخصصات : الأول فرع ما زال يهتم بالبيولوجيا وعلم النفس بل وحتى بفلسفة الكمبيوتر ، أي أنه يهتم باختصار بمحاكاة الإنسان وتقليده .


والفرع الثاني ، وهو الذي يبدو لنا الأكثر مناسبة ودقة ، هو تخصص يبحث "بكل بساطة" في توسيع مجال المعلوميات وهندسة البرمجياتgénie logiciel  وهو مجال يتعلق في الأساس بالتعلم الآلي . ويتعلق الأمر هنا بتطوير برمجيات تستطيع أن "تتعلم" وأن تطور نفسها مع أو بدون تدخل الإنسان . وهذه القدرة على التطور الذاتي هي ما يعطي الوهم بالذكاء .


"التعلم" يمكن أن يأخذ 3 أشكال. فهو يمكن أن يكون " تعلما موجها" عندما نقدم للبرمجية أمثلة تسمح لهذه الأخيرة بأن " تتعلم " تنفيذ مهمة معينة تتعلق بإعادة إنتاج أو بالتعرف على هذه الأمثلة المركبة أو على هذه "النماذج". ويمكن أيضا للتعلم ألا يكون "تحت توجيه معين" عندما نطلب من البرمجية تحليل كميات كبيرة من المعلومات أو نصوصا متعددة أو نطلب منها أن تعثر داخل هذه المعلومات والنصوص على عناصر تكون متشابهة أو أن تعثر على هياكل وبنيات... إلخ . 


كما يمكن للتعلم أن يتم تقويته وتعزيزه عندما تتوصل البرمجية ب "ردة فعل إيجابية" بعد أن تكون قد أنتجت نتيجة تعتبر إيجابية من قبل مستخدم بشري (أو سلبية في حال العكس) ، وهو ما سيؤدي إلى محاولة البرمجية أن تعيد مجددا إنتاج هذه النتيجة في المستقبل (أو لا تفعل ذلك في حالة ردة فعل سلبية).


التطبيقات أو الأنظمة التي تكون ثمرة للتعلُّم الآلي كثيرة ومتعددة . والعديد منها يفيد في مجال الصحافة . التطبيقات الخاصة بتصنيف حجم كبير من المعلومات (أو النصوص) أو إنتاج النصوص وكتابتها هي من الأمثلة الخاصة بالتعلُّم الآلي "تحت الإشراف" .


ومن بين أشكال التعلُّم الآلي "غير الموجه" هناك النمذجة الموضوعاتيةmodeling  Topic التي تعني اختيار وتحديد مواضيع معينة يتم الحديث عنها في نص من النصوص . وأخيراً ، هناك ما يمسى بأنظمة التعرف على الأصوات ، والترجمة الآلية ، أو التحليل التنبؤي.. وهي كلها أمثلة للتعلم الذي تتم تقويته وتعزيزه .


"الجديد في هذا المجال والمثير فعلا هو أن بعض التطبيقات أصبحت اليوم تستطيع محاكاة الحوارات والأحاديث مع البشر ، وهي تطبيقات تم اختراعها لتشتغل مثل عامل أو فاعل تواصلي وليس لتشتغل فقط مثل وسيط بسيط في التواصل البشري . وهذا هو الذي يفسر أن ما يسمى ب"الذكاء الاصطناعي" يجعلنا نخرج من منطقة راحتنا ويثير قلقنا" .


من هنا تأتي أهمية أن يشتغل ويهتم الصحفيون عن قرب ب"الذكاء الاصطناعي" ولو من باب التعريف  به وإعداد التقارير عنه. فعملية إزالة الغموض عن الذكاء الاصطناعي تساعد على نزع طابع الأسطورة عنه . ونزع الطابع الأسطوري يعني أن علينا ألا ننسى أبدا أن الإنسان الذي يعمل الصحافيون من أجل خدمته ينبغي أن يبقى في مركز الاهتمام والانشغال سواء في ما يتعلق بالممارسات المهنية أو بالنسبة للبحث حول استخدامات هذا الذكاء .


الباحثة لورانس ديريكس قامت ، مثلا ، بدراسة الوضعية التي تعيشها صحيفتان في بلجيكا حيث تحكي كيف قامت هيئتا التحرير في هاتين الجريدتين بإدخال "الأتمتة"automatisation  . هذه الدراسة تنبني على مقاربة إثنوغرافية استغرقت مدة سنتين وخرجت بخلاصات مهمة وغنية تشرح فيها الباحثة لماذا تخلت هاتان الصحيفتان ، في نهاية المطاف ، ولأسباب مختلفة ، عن تطبيق أدوات "الأتمتة" حيث تقول الباحثة : "إذا كان المنتوج الصحفي المعتمد على الأتمتة لا يجد ذلك الاهتمام أو تلك الإنتظارات من قبل الصحفيين ، بغض النظر عن السياق الاجتماعي والثقافي أو التنظيمي الذي يتم فيه هذا التجديد التكنولوجي ، فإن هذا المشروع ككل يبدو بالفعل محكوما بالفشل" .


وتتسائل الباحثة مورييل بياس عن تأثير التحولات الناجمة عن الذكاء الاصطناعي على العلاقات التي تربط بين موقع إخباري وقراءه . حيث قامت من خلال قياس نسبة متابعة القراء بالتحقيق في شروط إنتاج الأخبار وخاصة في الأساليب التي يقوم بها المنتجون بتصور وبناء تمثلات هؤلاء القراء. وانطلاقا من الحوارات التي أجرتها مع منتجي الأخبار وعدد من رؤساء التحرير في فرنسا ، تدعو الباحثة إلى إعادة التفكير في المكانة التي يتم إعطاؤها لذكاء القراء في سياق وبيئة معلوماتية تزداد تنافسية يوما بعد يوم .


من جهتهما ، قام الباحثان من جامعة لوفان في بلجيكا أنطونان ديكامب وفرانسوا كزافيي سطاندار ببحث مشترك يعتمد على منهجية تخلط بين جانب التشفير والأمن المعلوماتي في مجال التواصل. وقد كشفا إلى أي حد يمكن بسهولة أن نقوم بخداع بعض الخوارزميات (في مجال التصنيف والترتيب بشكل خاص) .


ويدعو الباحثان ، على الخصوص، إلى أن يقوم الصحفيون ب"تطوير وتمديد دورهم التقليدي كحراس للأخبار ليشمل دورهم كحراس للقرارات التي تتخذها الخوارزميات" . 


الباحث ريمي ديميكيليس تعهد بوضع حد للقضايا الناتجة عن عملية تحديد أولويات الأخبار في منصات الإنترنيت . حيث قام بالاعتماد على الكتابات الفلسفية للمفكر والزر Walzer حول موضوع فضاءات العدالة . وهكذا يخلص الباحث إلى أن "المجالات الخاصة بمنصات الإنترنت أصبحت تسود وتهيمن اليوم في المجال الصحفي إلى درجة أن الأولى صارت تمارس على الثانية نوعا من الدكتاتورية والاستبداد" . ولضمان استقلالية مجال الصحافة يقترح الباحث أن يتم ربطalgorithme de recommandation "خوارزميات التوصية" داخل المؤسسات الصحفية بمنصات الإنترنيت بشكل مباشر . 


ويدعو الباحثان رولاند إيف كارينيان وأندري موندو القراء إلى التعامل بحذر مع الابتكارات التكنولوجية التي جاء به الذكاء الاصطناعي في مجال الصحافة . فالصحافة حسب رأيهما، ينبغي أن تحافظ على دورها التاريخي باعتبارها كلب حراسة يحمي الديمقراطية وأن تعمل على تطوير " مقاربة نقدية للذكاء الاصطناعي ولأشكال الحكامة المرتبطة به" . فإذا كان الذكاء الاصطناعي يفتح المجال أمام إمكانيات للتطور التكنولوجي تقوم بتحويل وتغيير العلاقات الاجتماعية ، فإن على الصحافة ، بموازاة عملها على الخروج من أزمتها ، أن تتذكر أنها تدافع عن أفق ومثال اجتماعي idéal social 
وقام الباحثان نيكولا سان جيرمان وباتريك وايت بجرد لعملية إدماج الخوارزميات في العديد من وسائل الإعلام بأوربا وأمريكا الشمالية وكيفية تأثيرها على العمل الصحافي .


ويقدمان دراسة متميزة عن الوضع داخل بعض أقسام التحرير في كندا، وعن المبادرات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي التي تم إطلاقها في وسائل الإعلام عبر العالم. وحسب رأيهما ، فإن الذكاء الاصطناعي لم يأت من أجل تعويض الصحافيين ولكن ينبغي، عكس ذلك ، أن يتم اعتباره كوسيلة تساعد الصحافيين في عملهم اليومي. وهي مساعدة لن تتم " بين عشية وضحاها، وبدون حدوث اصطدامات وتأثيرات " .


مجلة "دفاتر الصحافة التواصل"  Les cahiers de journalisme et de la communication
السلسلة 2 – العدد 7 – الفصل الثاني 2021
 
 
 
 

Sara Elboufi
سارة البوفي كاتبة وصحفية بالمؤسسة الإعلامية الرسالة مقدمة البرنامج الإخباري "صدى الصحف" لجريدة إعرف المزيد حول هذا الكاتب



الاربعاء 3 ماي 2023

              














تحميل مجلة لويكاند






Buy cheap website traffic