كتاب الرأي

​إفريقيا والاستقلال الثاني عن فرنسا


أول أمس وقف رئيس الكونغو الديمقراطية فليكس تشيسيكادي Félix Tshisekedi بجوار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في ندوة صحفية بالعاصمة كينشاسا متحدثا إليه قائلا : "ما ينبغي أن يتغير في علاقاتنا مع فرنسا وبشكل خاص مع أوربا والغرب .. هو نظرتكم إلى الأمور ، فعندما تكون هناك أمور خاطئة في الانتخابات الأمريكية لا تتحدثون عن ذلك ، كذلك كانت هناك فضائح في عهد شيراك حول ناخبين كانوا موتى واحتسبت أصواتهم ..



بقلم : عادل بن حمزة

نحن ليست لدينا نية التأثير في ناخبينا والعملية الانتخابية بدأت وقد أشرنا إلى أنه إذا كان هناك خروج عن القواعد فلن يكون بسبب سلطات الدولة ولا اللجنة الانتخابية. هذا ما أردت أن أوضحه ، ما يجب أن يتغير أيضا هو طريقة تعامل فرنسا وأوربا معنا، عليكم أن تنظروا بشكل مختلف إلى إفريقيا وأن تحترمونا وليس أن تنظروا إلينا نظرة أبوية بحيث نكون نحن مخطئين وأنتم دائما على صواب ، الفقرة الأخيرة كانت الأكثر أهمية سواء في مضمونها أو الحدة التي ميزتها من جانب الرئيس فليكس، لكن عوض أن تستأثر باهتمام الرئيس ماكرون باعتبار أنها تختصر جوهر الأزمة التي توجد فيها العلاقات الفرنسية الإفريقية والتي من المفترض أن جولته الأفريقية جاءت للحد من تداعياتها، جاء رده مرتبكا وهو يحاول التعقيب من خلال تركيزه على دور الصحافة الحرة التي تبحث عن الحقيقة حتى في الانتخابات الأمريكية أو الفرنسية .



 مؤكدا أنه مع ذلك فعندما يتساءل صحفي فرنسي فإن ذلك حسب ماكرون لا يعني فرنسا ، ليرد عليه الرئيس فليكس بأنه لا يتحدث عن الصحافة بل عن تعليقات لودريون عندما كان وزيرا للخارجية . .معنى ذلك أن الرئيس الكونغولي كان يتحدث عن التدخل الفرنسي المباشر في الشؤون الداخلية للدول الافريقية ، كما أنه بدون كبير عناء، يمكن أيضا فهم حديثه في سياق تناقض المواقف المبدئية والعملية لفرنسا ، فمن جهة تنتج سردية الديمقراطية وحقوق الإنسان وتوظفها كآلية للضغط والابتزاز ، بينما من جهة أخرى شهدت القارة على مدى عقود حضورا عسكريا وسياسيا فرنسيا كان في خدمة أنظمة غير ديمقراطية فقط لأنها كانت حديقة خلفية لقصر الإليزيه ، حيث تحقق فرنسا مصالحها  وتتحكم في كل مفاصيل الحياة الاقتصادية لعدد كبير من دول القارة ، بدأ برسم السياسات الاقتصادية ووصولا إلى ارتهان السياسات المالية وارتباط الفرنك الإفريقي بسعر ثابت لسعر الصرف في علاقته بالعملة الأوربية الأروو وهو ما يتسبب في خسائر كبيرة لعدد كبير من الدول الإفريقية ، بل إن باريس لازالت إلى اليوم هي من يطبع عملة تلك الدول .

 

 الرئيس الفرنسي وصل الأربعاء الماضي إلى العاصمة الغابونية ليبروفيل كمحطة أولى في جولة أفريقية تقوده إلى أربع دول هي الغابون وأنغولا والكونغو وجمهورية الكونغو الديمقراطية ، هذه الجولة تأتي في ظل انتكاسة كبيرة لفرنسا على مستوى القارة ومحاولة لإعطاء انطلاقة جديدة للسياسة الافريقية الجديدة التي أعلنها ماكرون ، مع إعطاء الإنطباع بأن باريس قادرة على استرجاع مناطق نفوذها ، لكنها مطالبة لتحقيق ذلك بامتلاك جرأة القيام بنقد ذاتي لممارسات استمرت لعقود طويلة ، ويبدو أن ماكرون يحاول تقديم هذا الانطباع بداية من خطابه عن الشراكة الجديدة بين فرنسا والقارة السمراء .



التحرك الفرنسي يبدو أنه جاء متأخرا ذلك أن صناع القرار في فرنسا تأخروا كثيرا في استيعاب حجم التحولات التي عرفتها القارة ، وحجم العداء الذي تشكل لسنوات سواء داخل جزء كبير من النخب أو على مستوى شعوب القارة ، يكفي أن وصول ماكرون إلى الكونغو الديمقراطية تميز بتنظيم مظاهرات شعبية كبيرة أمام السفارة الفرنسية في العاصمة كينشاسا حمل فيها المتظاهرون الأعلام الروسية وصور بوتين ، متهمين فرنسا بدعم الجماعات المتمردة في البلاد وهو ما يهدد استقرارها ، هذه الأجواء في الكونغو الديمقراطية لا يمكن فصلها عن ما حدث في بوركينافاسو ومالي ، حيث خرجت القوات العسكرية الفرنسية في أجواء فرح وتشفي شعبي واسع ويقين متزايد للنخب الحالية الحاكمة التي جاءت إلى السلطة خارج عباءة باريس بعد موجة انقلابات عسكرية حضر فيها الدعم السياسي والعسكري الروسي من خلال مليشيات فاغنر التي تضاعف نفوذها خاصة في إفريقيا الوسطى وعدد من دول الساحل والصحراء ، بل إن لاعبين دوليين آخرين من حلفاء موسكو كإيران بدأوا يبحثون عن موطئ قدم في المنطقة ، هذا دون استثناء الصين التي إلى حدود الآن لازالت منشغلة بتوسيع حضورها الاقتصادي في المنطقة بدون اشتراطات سياسية . 



من أبرز مظاهر تراجع النفوذ الفرنسي بإفريقيا يبرز قرار بوركينا فاسو إنهاء العمل بـ”اتفاق المساعدة العسكرية” الموقع بين واغادوغو وباريس منذ 1961 ،  حيث منح المجلس العسكري الحاكم للقوات الفرنسية فترة شهر واحد لسحب جميع العسكريين الفرنسيين العاملين في الإدارات العسكرية في بوركينا فاسو بشكل نهائي ، وهو ما يمكن اعتباره استقلال ثانيا لدول القارة عن فرنسا ، يبقى السؤال هو مدى تقبل الولايات المتحدة الأمريكية نتائج الفراغ الذي سيتركه انحسار الدور الفرنسي خاصة في منطقة مهمة مثل الساحل والصحراء في ظل تنامي الدور الروسي ، الذي لا يختلف دوره فيما يتعلق بدعم الأنظمة العسكرية عن الدور الفرنسي السابق ، لكن مع إمكانية التحالف مع المنظمات الإرهابية في المنطقة ، لذلك فإن واشنطن ستبحث ملئ الفراغ الذي ستتركه فرنسا مما يهدد بجعل منطقة الساحل بؤرة توتر كبرى تشكل تهديدا حقيقيا على السلم والأمن الدوليين .

سارة البوفي كاتبة وصحفية بالمؤسسة الإعلامية الرسالة… إعرف المزيد حول هذا الكاتب



الجمعة 21 أبريل 2023
في نفس الركن