بقلم: لحسن حداد كاتب مغربي، وأستاذ جامعي في التدبير والتواصل والعلوم السياسية والجيواستراتيجيا وإدارة الأعمال
هذا هو النموذج الصيني، حسب يوان آنغ، في مقاله المنشور في «مدونات البنك الدولي» الذي عنونه «من يأتي أولاً الحكامة الجيدة أم النمو الاقتصادي؟» (نوفمبر/تشرين الثاني 2017). إن الأطروحة الأساس في كتابه حول تجاوز الصين مصيدة الفقر هي أن هاته استعملت «مشاكلها» على المستوى المؤسسي لتطوير أسواقها، قبل أن تمر إلى تدعيم المؤسسات لصيانة الأسواق، لأن الأسواق الصاعدة تحتاج إلى مؤسسات قوية.
هكذا فكوادر الحزب الشيوعي على المستوى المحلي هم مَن استعملوا شبكاتهم لجلب المستثمرين مستخلصين عمولات (أو رشى لصالحهم). استعمال هذا العدد الكبير من الكوادر الذين كانت لهم مصلحة خاصة في جلب الاستثمار (ألا وهي الحصول على العمولات) جعل حجم الاستثمار يتطور بشكل كبير دون الرفع من أجور الإدارة (أي كوادر الحزب الشيوعي).
هذه «حكامة سيئة» حسب الفهم المتعارف عليه للحكامة، ولكن يوان آنغ يقول إن تهافت كوادر الحزب الشيوعي بالآلاف، مستعملين شبكاتهم العائلية والاجتماعية، لجلب الاستثمار وتطوير المدن الساحلية أسهم في خلق سوق ضخمة شكّلت نقطة الانطلاق. بعدها تم المرور إلى أهداف أخرى، تمثّلت في الانتقال من الاستثمار الكمي إلى الاستثمار النوعي.
لهذا فيوان آنغ يقول إنه يجب دائماً أن «تبدأ بما هو في حوزتك وليس بما تريده». استعملت الصين قوة كوادر الحزب الشيوعي وانتشارهم بعشرات الآلاف عبر التراب الصيني وشبكاتهم وبيروقراطيتهم لصالح خلق طفرة كمية ضخمة في الاستثمار. بينما قد تعتبر دول أخرى هذه الوضعية بمثابة عراقيل، عدّها دين كسياو بينغ والزعماء الصينيون من بعده فرصةً للتأسيس لسوق ضخمة كمياً وعددياً. فقط خلال العقدين الأخيرين، بدأت الصين تنهج نهجاً يتوخى النوعية والجودة وتنويع مصادر الاقتصاد عبر الاستثمار في الخدمات والسياحة والتكنولوجيا المتطورة.
من جانب آخر، استعملت دول الخليج العربي مثلاً الثروة البترولية لفترة طويلة مصدراً للريع الاقتصادي وبناء سوق مهمة مبنية على الاستهلاك والتحويلات المباشرة والامتيازات؛ وحين بلغت هذه السوق مستوى متطوراً من التراكم، بدأت دول الخليج في تطوير مؤسسات الحكامة لترقية وتحسين فاعلية التدخل الحكومي. وهذا التطور هو الذي جعلها تستثمر في تنويع مصادر الاقتصاد وتطوير الأسواق على مستوى السياحة والخدمات والتكنولوجيا واقتصاد المعرفة. ومن المنتظر أنه حين تصل هذه الأسواق إلى مرحلة ما ستحتاج إلى مؤسسات أكثر قوة معتمدة على العدالة والرقابة الصارمة وفاعلية التدخل الحكومي والمنافسة الشريفة والشفافية على جميع المستويات وثقافة الحقوق للجميع لمواكبة هذا التطور.
دول عربية أخرى في شمال أفريقيا إما لم تستفد من الطفرة البترولية وسيطرة الجيش على الاقتصاد لبناء أسواق اقتصادية حقيقية (الجزائر مثلاً) وإما استعملت الإدارات البيروقراطية المتجذرة في المجتمع والدولة، وثقافة الريع والزبونية، بشكل ناجح نسبياً (مصر والمغرب والأردن وتونس) لخلق أسواق كبيرة نسبياً وآن الأوان لتقييم المرحلة وضبط متى يمكن لها المرور إلى تطوير رأسمالها المؤسساتي بشكل نوعي لتدبير هذه الأسواق ولخلق الجودة والمردودية في استثماراتها.
من جانب آخر ودون النظر إلى المسألة من وجهة نظر كرونولوجية، فإن اعتماد الدول العربية المقتصر فقط على رأس المال الثابت (الاستثمار) والتكنولوجيا لن يحقق التنمية المنشودة والإقلاع الاقتصادي الكفيل بامتصاص البطالة وخلق الثروة وولوج الكثير منها إلى نادي الدول الصاعدة. قد يحقق رأس المال الثابت تحولاً كمياً في السوق، ولكن التحول النوعي يأتي من رأس المال المؤسساتي وإدماج المرأة في سوق الشغل وتنمية رأس المال البشري. مجتمِعةً قد تمنح هذه العوامل اقتصادات دول مثل المغرب والسعودية ومصر والكويت وعمان وتونس والأردن ثلاث نقاط إضافية على مستوى النمو، وهذه كفيلة بجعلها تخطو خطوات ثابتة نحو الاقتصادات العشرة الأوائل بالنسبة للسعودية والعشرين الأوائل بالنسبة لمصر ونادي الدول الصاعدة بالنسبة للمغرب.
ولكن مقاربة استعمال «الحكامة السيئة من أجل التأسيس لأسواق قد تصل إلى درجات عليا من التراكم تحتم اعتماد حكامة جيدة» هي مقاربة محفوفة بالمخاطر. إعطاء الامتيازات لبناء البنيات التحتية الكبرى وخطوط القطارات في الولايات المتحدة في أواخر القرن التاسع عشر، أعطى دفعة قوية لنمو اقتصادي استثنائي، ولكنه في الوقت نفسه شجَّع تنامي الرأسمالية المتوحشة وأنظمة التروستات والكارتيلات وكذا نمو الجريمة المنظمة و«العشرية الحمقاء» التي أدت إلى انهيار بورصة نيويورك في 1929.
حتى في الصين نفسها، فإن التهافت على الاستثمار خلق سوقاً ضخمة بالفعل، ولكن على حساب استعمال مختل وغير منظم للموارد، ما طرح أسئلة تتعلق بالاستدامة وتدمير المنظومة الإيكولوجية والاستيراد الجشع للمواد الأولية وارتفاع الفاتورة البيئية، وهي أمور لم تستطع الصين تجاوزها بعد. كما أن الهوس بالتصنيع جعل الصين تعتمد بشكل كبير على إنتاج المعامل والتصدير وهو اعتماد يختزل في طياته مخاطر جمة. ولم تستطع سياسة تطوير قطاع الخدمات تنويع الاقتصاد بشكل يقلص من التبعية للصناعة والتصدير.
لهذا فإن هذا النموذج المبني على استعمال «انتهازي» للفرص المتاحة «مباح» مرحلياً، ولكن لا ينجح على المدى البعيد دون عين على المخاطر. هذا ما على الدول العربية القيام به: تطوير الأسواق عبر سياسات الريع والامتيازات، ولكن دون ترك هاته تتحول إلى مظاهر فساد مزمنة من الصعب تجاوزها. لهذا فيجب تنمية المؤسسات بالموازاة مع التطور «البدائي» للأسواق. ما إن تصل الأسواق إلى مرحلة النضج تكون المؤسسات قد اكتسبت من التجربة ما يمكنها من مراقبة المجتمع والاقتصاد مراقبة تتوخى المنافسة الشريفة والشفافية. لهذا: نعم يمكن تنمية الاقتصاد معتمداً على ما لك، ولكن يجب على عينك أن تكون دائماً مستقرة على ما تطمح إليه، على التحول النوعي المنشود.
هكذا فكوادر الحزب الشيوعي على المستوى المحلي هم مَن استعملوا شبكاتهم لجلب المستثمرين مستخلصين عمولات (أو رشى لصالحهم). استعمال هذا العدد الكبير من الكوادر الذين كانت لهم مصلحة خاصة في جلب الاستثمار (ألا وهي الحصول على العمولات) جعل حجم الاستثمار يتطور بشكل كبير دون الرفع من أجور الإدارة (أي كوادر الحزب الشيوعي).
هذه «حكامة سيئة» حسب الفهم المتعارف عليه للحكامة، ولكن يوان آنغ يقول إن تهافت كوادر الحزب الشيوعي بالآلاف، مستعملين شبكاتهم العائلية والاجتماعية، لجلب الاستثمار وتطوير المدن الساحلية أسهم في خلق سوق ضخمة شكّلت نقطة الانطلاق. بعدها تم المرور إلى أهداف أخرى، تمثّلت في الانتقال من الاستثمار الكمي إلى الاستثمار النوعي.
لهذا فيوان آنغ يقول إنه يجب دائماً أن «تبدأ بما هو في حوزتك وليس بما تريده». استعملت الصين قوة كوادر الحزب الشيوعي وانتشارهم بعشرات الآلاف عبر التراب الصيني وشبكاتهم وبيروقراطيتهم لصالح خلق طفرة كمية ضخمة في الاستثمار. بينما قد تعتبر دول أخرى هذه الوضعية بمثابة عراقيل، عدّها دين كسياو بينغ والزعماء الصينيون من بعده فرصةً للتأسيس لسوق ضخمة كمياً وعددياً. فقط خلال العقدين الأخيرين، بدأت الصين تنهج نهجاً يتوخى النوعية والجودة وتنويع مصادر الاقتصاد عبر الاستثمار في الخدمات والسياحة والتكنولوجيا المتطورة.
من جانب آخر، استعملت دول الخليج العربي مثلاً الثروة البترولية لفترة طويلة مصدراً للريع الاقتصادي وبناء سوق مهمة مبنية على الاستهلاك والتحويلات المباشرة والامتيازات؛ وحين بلغت هذه السوق مستوى متطوراً من التراكم، بدأت دول الخليج في تطوير مؤسسات الحكامة لترقية وتحسين فاعلية التدخل الحكومي. وهذا التطور هو الذي جعلها تستثمر في تنويع مصادر الاقتصاد وتطوير الأسواق على مستوى السياحة والخدمات والتكنولوجيا واقتصاد المعرفة. ومن المنتظر أنه حين تصل هذه الأسواق إلى مرحلة ما ستحتاج إلى مؤسسات أكثر قوة معتمدة على العدالة والرقابة الصارمة وفاعلية التدخل الحكومي والمنافسة الشريفة والشفافية على جميع المستويات وثقافة الحقوق للجميع لمواكبة هذا التطور.
دول عربية أخرى في شمال أفريقيا إما لم تستفد من الطفرة البترولية وسيطرة الجيش على الاقتصاد لبناء أسواق اقتصادية حقيقية (الجزائر مثلاً) وإما استعملت الإدارات البيروقراطية المتجذرة في المجتمع والدولة، وثقافة الريع والزبونية، بشكل ناجح نسبياً (مصر والمغرب والأردن وتونس) لخلق أسواق كبيرة نسبياً وآن الأوان لتقييم المرحلة وضبط متى يمكن لها المرور إلى تطوير رأسمالها المؤسساتي بشكل نوعي لتدبير هذه الأسواق ولخلق الجودة والمردودية في استثماراتها.
من جانب آخر ودون النظر إلى المسألة من وجهة نظر كرونولوجية، فإن اعتماد الدول العربية المقتصر فقط على رأس المال الثابت (الاستثمار) والتكنولوجيا لن يحقق التنمية المنشودة والإقلاع الاقتصادي الكفيل بامتصاص البطالة وخلق الثروة وولوج الكثير منها إلى نادي الدول الصاعدة. قد يحقق رأس المال الثابت تحولاً كمياً في السوق، ولكن التحول النوعي يأتي من رأس المال المؤسساتي وإدماج المرأة في سوق الشغل وتنمية رأس المال البشري. مجتمِعةً قد تمنح هذه العوامل اقتصادات دول مثل المغرب والسعودية ومصر والكويت وعمان وتونس والأردن ثلاث نقاط إضافية على مستوى النمو، وهذه كفيلة بجعلها تخطو خطوات ثابتة نحو الاقتصادات العشرة الأوائل بالنسبة للسعودية والعشرين الأوائل بالنسبة لمصر ونادي الدول الصاعدة بالنسبة للمغرب.
ولكن مقاربة استعمال «الحكامة السيئة من أجل التأسيس لأسواق قد تصل إلى درجات عليا من التراكم تحتم اعتماد حكامة جيدة» هي مقاربة محفوفة بالمخاطر. إعطاء الامتيازات لبناء البنيات التحتية الكبرى وخطوط القطارات في الولايات المتحدة في أواخر القرن التاسع عشر، أعطى دفعة قوية لنمو اقتصادي استثنائي، ولكنه في الوقت نفسه شجَّع تنامي الرأسمالية المتوحشة وأنظمة التروستات والكارتيلات وكذا نمو الجريمة المنظمة و«العشرية الحمقاء» التي أدت إلى انهيار بورصة نيويورك في 1929.
حتى في الصين نفسها، فإن التهافت على الاستثمار خلق سوقاً ضخمة بالفعل، ولكن على حساب استعمال مختل وغير منظم للموارد، ما طرح أسئلة تتعلق بالاستدامة وتدمير المنظومة الإيكولوجية والاستيراد الجشع للمواد الأولية وارتفاع الفاتورة البيئية، وهي أمور لم تستطع الصين تجاوزها بعد. كما أن الهوس بالتصنيع جعل الصين تعتمد بشكل كبير على إنتاج المعامل والتصدير وهو اعتماد يختزل في طياته مخاطر جمة. ولم تستطع سياسة تطوير قطاع الخدمات تنويع الاقتصاد بشكل يقلص من التبعية للصناعة والتصدير.
لهذا فإن هذا النموذج المبني على استعمال «انتهازي» للفرص المتاحة «مباح» مرحلياً، ولكن لا ينجح على المدى البعيد دون عين على المخاطر. هذا ما على الدول العربية القيام به: تطوير الأسواق عبر سياسات الريع والامتيازات، ولكن دون ترك هاته تتحول إلى مظاهر فساد مزمنة من الصعب تجاوزها. لهذا فيجب تنمية المؤسسات بالموازاة مع التطور «البدائي» للأسواق. ما إن تصل الأسواق إلى مرحلة النضج تكون المؤسسات قد اكتسبت من التجربة ما يمكنها من مراقبة المجتمع والاقتصاد مراقبة تتوخى المنافسة الشريفة والشفافية. لهذا: نعم يمكن تنمية الاقتصاد معتمداً على ما لك، ولكن يجب على عينك أن تكون دائماً مستقرة على ما تطمح إليه، على التحول النوعي المنشود.