يحدث الآن

مشاهد أعظم من الموت نفسه


استوقفني منظر من وراء زجاجة المقهى لرجل مسن منصب على قارعة الطريق ، القريبة من حافة البحر يستنشق الهواء النقي ليداري وراءه مصيبته الحقيقية وربما حلمه الضائع ، وراء نظراته العميقة لحركة المياه وهي تتضارب واحدة تلو الأخرى .



سارة البوفي : l'odj arabe

الأمر يصبح أكثر تعقدا ، عندما تواجه من هم يتعايشون مع نكبتهم ببرودة تامة ، حتى أصبح الأمر لا يأخذ منهم مأخذه ، لكن الأمر يصبح مختلفا تماما عندما نواجه مثل هذه المشاهد من التشرد التي لم تجد حتى " حفرة " ليناموا فيها بسلام اليوم أو غدا عند موتهم ، فلا معيل لهم يشعر بممراتهم غير الله ، فهذه مصيبة أعظم من الموت نفسه .

 
اقتربت منه قليلا لأحاول فقط البحث في تعابيره عن ما يشبع فضولي ، لكن تركيزه كان أقوى من رغبتي في المعرفة ، ما دفعني كذلك إلى التأمل عوض الغوص في الموضوع ، لكن سرعان ما استجمعت قواي وتوجهت إليه بسؤالي المعتاد الذي أستعمله دائما لأحاول إقتحام صمت أحدهم ليجيبني عن تقرير أبحث عنه .

يبدو أن الجو متقلبا اليوم؟
بعد 3 دقائق من الصمت تقريبا ، أعدت سؤالي بطريقة أخرى.
أليس كذلك؟
ليجيبني نعم هو كذلك

فنظرت إلى ملابسه المهترئة نظرة دهشة وشفقة ، واهتز قلبي لبشاعة منظره وشعرت أن الجوع يمزق أحشاءه الهشة ، فقدمت له ما وجد لدي وما أخذته قبل التوجه إليه ، فدغذغت رائحة الشطائر التي أتيت بها شهيته فدنا منه واقتات منها بشراهة ، ولم ينتبه إلى الغبار المتراكم على يده ، لكن كل همه الوحيد هو أن يغمض الجوع الذي كان به .

تعالت أصواته نحوي وهو يحكي لي حياته اليومية وسط البحر الذي يفترش داخل صخوره قطع الكارطون وغطاء خفيف ، خفيف جدا لا يمكنه حتى من التغلب على برودة البحر.

حاولت الضغط بيدي على يدي لأحاول اخفاء ملامحي واستيعاب مثل هذه المظاهر التي أصبحت طبيعية وظرورة ملحة لا يمكن الهروب منها بالتجاهل ، لكن سرعان ما اصفر وجهي صفرة الأموات وعلا نشيجي وأصابني هلع شديد وارتعاش تام الذي جعلني أغادر المكان دون التفات لكي لا أتورط أكثر في التفاصيل .

سارة البوفي كاتبة وصحفية بالمؤسسة الإعلامية الرسالة… إعرف المزيد حول هذا الكاتب



الجمعة 2 دجنبر 2022
في نفس الركن