كتاب الرأي

لماذا أصبحت الرواية الأكثر شيوعًا


قرأت خبرًا قبل أيام مفاده أن شخصًا كل 40 ثانية يُقدم على الانتحار في عالمنا هذا ، والأسباب تتنوع بالطبع، لكن مشتركًا واحدًا بينها يشير إلى خطورة هذه الظاهرة ، وهو تزايد الأعطاب النفسية لدى البشر ، ومن هذا المنطلق هناك بعض الحلول التي تُطرح باستمرار لإحداث التوازن النفسي ، وبالتالي تفادي تزايد هذه النسبة من الانتحار، وأهمها القراءة ، يقول (سومرست موم) في هذا الشأن : ” إن اكتساب عادة القراءة، وإحاطة أنفسنا بالكتب الجيدة، هو بمثابة بناء ملجأ نفسي يحمينا من أغلب مآسي الحياة “ ، هذا واحد من الدوافع التي تقف وراء فعل القراءة، وقد باتت بالفعل متراسًا يهرب إليه القارئ، جراء ما يحدث من تراجعات على مختلف الصعد في حياتنا .



جلال برجس

وتشير الأرقام إلى أن النسبة العظمى من القراءة في هذه المرحلة هي من حصة الرواية في مختلف أنحاء العالم ، هل يذهب القراء إلى متاجر الكتب والمعارض والمنصات الالكترونية لاقتناء رواية تحقق لهم المتعة ؟
 
نعم إن هذا أحد دوافع القراءة الذي لن ينقرض ، ولكن هناك دوافع أخرى أمام ما يكتنف العالم من تعقيدات تنعكس على البناء الداخلي للإنسان قبل البناء الخارجي مكانه ؛ فمنهم من يقرأ لأجل المتعة، ومنهم من يقرأ لأجل المعرفة ، وهناك من يفعل ذلك هربًا من أزمة نفسية ، وهناك من يرغب برؤية حقيقة أزمته الشخصية والعامة ، وثمة قراء يسعون لاكتشاف ثقافات جديدة ، وأماكن أخرى ، وقراء يريدون أن يعرفوا كيف يفكر الآخرون .

 
إن هذه العوالم متوفرة في السينما والمسرح والقصة والقصيدة وكل أشكال الفنون ، لكن هذه العوالم توفرت في صنف أدبي واحد ويتعامل معها بوعي متكامل الأبعاد ألا وهو الرواية ؛ إذ تعتبر هذه الميزة السبب الأكثر قوة وراء انتشار الفن الروائي على الصعيد العالمي ، لقد باتت الرواية وفق الرؤى النقدية الحديثة هاضمة لكل أشكال الفنون ، والآداب ، وحتى فضاءات الرقمنة من وسائل للتواصل وما فيها من مميزات ولغة ؛ فما عادت مجرد نوع أدبي يُقرأ للتسلية ، أو طرد الأرق ، إنما بتعبير الروائي الأردني الراحل مؤنس الرزاز صارت ” هي الأرق بعينه ” وذلك لأنها أخذت تخرج على السائد السياسي والاجتماعي والثقافي ، بمستوى لافت من الحرية في تجاوز التابوهات ، ومقاربة كثير من قضايا الإنسان سواء عودة إلى التاريخ ، أو استلهام الحاضر، أو ذهابًا إلى المستقبل ؛ إنها تفعل ذلك بوعي يفكك الأزمة ، ويثير زوبعة من الأسئلة، فتحدث جدلًا .

 
فيما ما فعلته الرواية الحديثة ، أو رواية ما بعد الحداثة خروج على كل أشكال المراكز ، ودفع باتجاه أن يصير الإنسان مركزًا بحد ذاته ، الأمر الذي أفقد كثير من المسلمات شرعية وجودها ، لكن هذه الميزات التي عبدت الطرق نحو اعتلاء الرواية عرش الأجناس الأدبية جاء خليطًا من التوجه النخبوي ، والشعبي ؛ إذ تجاوزت تلك النتاجات التجريبية التي ظهرت فيها نصوص نخبوية بينها وبين القراء مسافة فيها ضرورات كثيرة أهمها الارتقاء بسوية المتلقي ، لكن لم تتنازل الرواية في هذه المرحلة عن نخبوية قادرة على الوصول إلى أعلى نسبة من قرائها ، فقد التفتت في العالم العربي على الأقل-إلى وعي ألف ليلة وليلة الحكائي ، واستثمرته ضمن إعادة تدوير أفضى إلى طرائق سردية جديدة ، ولغة مغايرة ، ووعي معرفي عميق .

 
مثلما وجد هذا الذيوع الكبير للفن الروائي تبشيرًا بمرحلة أدبية جديدة يعول عليها ، وجد في عالمنا العربي نقدًا لاذعًا انطلاقًا من ذلك الإقصاء الذي حدث لباقي الأجناس الأدبية ، ومن تحول كثير من الكتاب إلى الكتابة الروائية ، ومن انتشار الجوائز المعنية بهذا الشأن ، وتوجه الصحافة الثقافية إليه بشكل لافت .

 
يعلم الكثير أن في مثل هذه الانطلاقات الأدبية ما هو غث ، وما هو سمين، ولكن هذا ليس مؤشرًا على عدم سلامة المرحلة ثقافيًا ، بل إنه دليل على صحيتها ؛ فأن العمل الأدبي الجيد لابد أن يؤسس له مكانة ليعيش طويلًا بين قرائه ، أما الأعمال التي بقيت على حدود الاتقان سيهزمها الوقت .

 
لقد باتت الرواية هي الجنس الأدبي الأكثر قدرة على التعبير عن هموم الإنسان ، وطموحاته ، ومكانه ، وزمانه ، وبنائه الداخلي ، في مرحلة عالمية ملتبسة صارت فيها قادرة على أن تجعل من يخوض غمارها قراءة وكتابة يرى جيدًا أين يقف على هذه الأرض .

المصدر : جريدة  أثير 

سارة البوفي كاتبة وصحفية بالمؤسسة الإعلامية الرسالة… إعرف المزيد حول هذا الكاتب



الأربعاء 14 دجنبر 2022
في نفس الركن