فن وفكر

لم تكن امرأة، ملاكا يمشي كانت


كل ابن بأمه معجب لم تكن امرأة، ملاكا يمشي كانت

“تتواضع الوردة فتصبح وردةً أكثر.
كم حاولت ألّا تكبرَ كي لا تخدشَ الماءَ أو الغصون
فلم تكْبرْ سوى في المرآة” إبراهيم نصر الله



عبد العزيز كوكاس

حين كانت الحياة المبهجة تغادر عينيها بشكل تدريجي، لتمنح مكانها للألم وسطوة الموت وهي بين ذراعي أحلامي، لم تسعفني وطأة الفقد لأرثيها بما يليق بمقامها في القلب وبالكلمات التي تفي حزني الشديد على فراقها، لذلك رفضت أن أسمّي ما أكتبه شعرا، لأن أجمل قصيدة تليق بأمي التي كانت تشبه قمرا مكتمل التكوين.. ورغم إصرار بعض النبلاء من الأصدقاء الكبار في المحبة والإبداع، أمثال الشاعر المصري الراحل رفعة سلام والرائعين عبد الرفيع الجواهري وحسن نجمي… فإنني وسمتُ قصائد ديواني الأول “رائحة الله” ب”شيء كالشعر”، بكاف التشبيه وحدها أبقيتُ على رمزية الوفاء للإهداء الذي قدمته لذات الكتاب: “إلى أمي التي تشبه القصيدة التي سأظل أحلم بكتابتها، وأستحي أن أسمي ما دونها شعرا”..

فاطمة لم تكن أُمّا بيولوجية رُبطْتُ بحبلها السُّري والسِّري، ولعبت في حوض بطنها الذي كان لي مأوى، وكانت لي صدرا عطوفا ووعيت بفضل رعايتها عظمة حرف النون في بهاء الكون والفارق البسيط بين الدال في الوجود والعدم.. لا، فاطمة كانت أمّا جماعية، ذاكرة عصيّة عن النسيان، ظلت تتذكر كل جزئية عن الدّوار الذي ولدَتْ فيه، الأطيار التي كانت تمنحُها صوتها لتغرد في الحقول وتُعيرها أجنحتها لتطير نحو مشتهاها ومواعيدها السرية وتُروض المعاني والأشياء، تستعيد صورة والدها حافظ القرآن المتجول بين الدواوير والحكايات وصدور النساء العديدات اللواتي تزوجهن وأنجب سلالات وأفخاذا يجتمعون في كنية فنيدي، ويختلفون في اللون والمنشأ والحكايات، حتى أصبح لدي أخوال صغار، ظلوا أعز رفقة لي لم يزهر في ربيع علاقتنا شوك أبدا.. وتُعيد ترتيب المختلف في قلب المؤتلف، والعجائبي ضمن الواقعي، لتبني عشّا لحلم شارد، وتسمي السماء ماء، والأرض بحرا، والحقول الممتدة سورة الرحمان مجللة بالغموض الذي يحتاج إلى التأويل الدائب..

كانت مُشعة مثل زُمرّدة ببهائها وجمالها، حين تُسدل شعرها الحريري تغار من تموجه سنابل الحقول الذهبية، لم تكن أهداب شعرها مجازا لامرأة تسكن قصيدة غزل، كنا نغار من والدنا، الذي كان يملك وقتا أكثر وقدرة أكبر لوصف جدائل شعرها الناعم، ويشم رائحته التي تشبه الخبز الطازج في فرن بلدي، ورائحة الزعفران والقرنفل في ضفائر شعرها كل عيد كانت تُدوّخنا وتحملنا إلى أقاصي الحلم.. كان الحب بين الوالد والوالدة جزءا من قُوتِنا اليومي قبل أن يزحف غمام بؤس عام مع تعطّل أبي.. كانت فتنة من جمال وحب وبراءة ولعب طفولي أيضا.

فاطمة ظلت مثل أبدية مصنوعة من أمل وحزن، من فرح وحكي، من عطف جماعي على كل هؤلاء الفقراء والأحباب الموزعين على خرائط الوقت وكسله، مجرد ذكر اسمها بين العائلة الكبرى أو وسط الحي يملؤنا بالفخر والاعتزاز، كانت حارسة السلالات الباذخة والأماني المتعبة في آن، كم رافقتني في دروب المستشفيات التي عبرتُها وأنا غضّ عليل أهشّ من بسمة، وأغمي عليها أكثر من مرة بسبب الإبر التي غرزتها الممرضات في يدي التي جفّت عروقها من الدم، كانت رؤاي كلما غابت سماء أو جفّت شطآن، لم تكل ولم تمل من التطلع ليزهر الحمام على صفصاف بيتنا، ظلت مثل غد يلقي بضوئه على ضفافنا، تشدو بإسرار وهي تُهدهدنا حتى نغوص في حلمنا.. فتستلقي على لحافها مثل سنونو متعب أو كسُوناتة أنيقة تزرع السحر في الموج كلما انكسر الكلام.

كانت لنا حديقة، قمرا على حافة أرض أصابتها دوخة الدوران.. لكن كان لها أيضا قلق استثنائي، حين تغضب أمي تتّشح السماء بسواد كئيب، يجتاح غبش رمادي كل أرجاء البيت، تبدو الكرة الأرضية كسلى، لا تحب أن تتزحزح خطوة واحدة كأنها تسير بفرح أمي لا بالقوانين الفيزيائية للكون. وقسوتها، يا لقسوتها حين تقسو، عليك أن تبدل كل قصارى جهدك، لتعفو عنك.. فتشرق شمس نهارك. غضب أمي أكثر حلكة من ظلام الليل، موت جنائزي، شقاء حصان يسير على شفا هاوية جبل، قلق امرأة عاشقة تعرضت للخيانة والخدلان، أشبه بغضبة إلاه على برية لم تصُن عهده وخانت ودّه، تشتهي الزلزال وانفجار براكين الأرض والبينغ بانغ الأول الذي أخرج البسيطة إلى حيز الوجود، بدل تقطيبة تبرز بين عينيها الساحرتين!

كانت فاطمة فنيدي ضئيلة الحجم، رائقة الحديث وعظيمة الحضور، جميلة المحيا، قرمزية العينين ووردية الخدين، حين تسبل أهدابها يُصاب وهج الكون باسترخاء لذيذ.. عرفتْ كيف ترصّ الأساطير كفزاعات تطارد غربان حقول اليباب، وتدغدغ الكمد والغم حتى يبسمان، مرحها كان يشع من حولنا مثل فراشات الضوء، صوتها يخرج أنيقا كخيط فرح.. كان أبي العائد من السفر الطويل دوما، يُذهب تعبه الرصاصي بسحر اللعب في حضرتها، يحملها ويلعب بها دور قربة ماء السقائين، ونحن صغار نموت ضحكا، نبدو مثل عطشى يمدون كؤوسهم لماء الحياة والوالد يضغط على أذن أمي المحمولة على ظهره، ونملأ أقداحنا، حليبا أو ماء زلالا أو ما ارتضاه كل واحد منا، نبلّ ظمأنا وننام على تأوّهاتهما التي كانت تخلق فينا قهقهات سرية متواطئة وفرحا لا يُضاهى.

رغم أنها رحلتْ دون أن تترك لنا كأبناء ما نقتسمه من ملذات الحياة، لأنها كانت فقيرة من كل شيء عدا ثراءها البهيّ في الحب والبدل بلا حدود، فإننا سنختلف كإخوة في عدّ أثرى كنز تركت لنا، هل هو حكيها البهي؟

بلا حدود تحكي، بابتسامة من فمها الصغير الأشبه بحبّة كرز، تستعيد شيْطَنة طفولتها، انفلاتها من كل أسر، تيهُها في الحقول وهي تصطاد فراشات سرية بعيدة، عشق الصبية المتلهّفين لأن تُبدي لهم بسمة منفرجة من شفتين أشبه باقتباس نص مقدس نحرص على البقاء أوفياء لرسمه وحرفه وشكله.. كدّها المستمر لتلمس رائحة وردة، وتشم نور القمر المنعكس على صفحة ما تبقى من ماء البئر، غضبها من تصنيف البدو لشقائق النعمان ضمن الطفيليات، محاكمة القبيلة لنزق الخيال الطفلي..

ظلت تحيرني تلك الشعرية النثرية الباذخة في حكايات أمي، ذلك الاقتصاد المرح حد التقشف في التعبير، تلك المجازات المشعة مثل بلور، الهوس بالتفاصيل.. روح المقاومة، مواجهة الرداءة والأسى والقهر، تلك الكثافة التي تعتبر انزياحا عن روح العادة البذيئة، والروح الفلسفية الشديدة المقطرة بالحكمة.

أمي فاطمة سلطانة في الحكي، سلطانة في المحبة.. كانت لا تُرى إلا والابتسامة تسبق عطرها “الريف دور” (حلم الذهب) الذي ظلت حتى على كِبر تتزين به وترش رذاذه ببهاء المراهقات الذاهبات إلى موعد جميل.. لم تكن لديها ذكريات سيئة لتُشعل النيران فيها، ولا رسائل سرية أو طيشا لا يُستحق أن يُروى في بهاء الحضور، كانت مثل طبيب يُشَرّح جثة على مائدة، تكشف ببراءة غير متناهية كل صفحة من كُنّاش حياتها الممهور بعشقها وشغبها الطفولي الدائم حتى وهي تذهب نحو حتفها، تحفر فينا الأسماء والأماكن والصور، وتعلمنا قداسة قرابة الدم، ظلت حتى آخر نفَسها تقطع المسافات الطويلة لرؤية ما تناثر من سلالة عائلتها الممتدة طولا وعرضا.. لم يأخذ منها تقدّم العمر سوى أعطاب جسدها.

ظلت بهية، حنونة، صوتها مثل قصيدة بجرس إيقاعي يسري دبيبه مثل السحر، كانت بارعة في ابتكار الصور التي لم تمتلك الكثير منها، لذلك دأبت على أن تصنع ذاكرتها عبر الحكي، حيث تتحول الوقائع والأحداث على لسانها إلى أناشيد للعصافير الجريئة التي تمضي مثل الضوء نحو سامعيها، كانت قادرة على إدخال تمثال كبير خارج عن السيطرة وعصي عن الامتثال، في ألبوم صورها الصغير، تعبث به لوحدها فيبوح لها بأسرار عزلته وتاريخ ما رأته عيناه الذابلتين.

أو نختلف حول أصل وسرّ كُنيتها فنيدي، أهو قطعة الحلوى الشهيرة في الأسواق المغربية، أم لون بهاء أول سترة لجدتي سحرتْ أباها.. أو نختلف على لون الحب الذي كان يشع من عيني أمي اللّوّاحتين بالفتنة وأسر الإغواء؟ وفي تفسير معنى الحزن الغامق في اتساع حدقة عينيها؟

ما الذي يجرحها أكثر؟
شغبُنا، هواءُ الليل، اختلاف نصيبنا من سطوع شمسها، وقع خطواتها الجليلة بين مساحة ضوء وظل عتمة، عدد دمعاتها على فراق كل واحد منا ومقارنته بأثر الندى على خطّ الزهرة، عدد المرات التي بكت حزنا وعدد الدموع على مقلتيها حين بكت فرحا…؟ لأن ليس من السهل فهم غموضها الجليل، كانت أشبه بقبو سري للذكريات، للأحزان وللخيبات، أو الأحلام التي تتكدس مثل فوضى في دُرج معمار عتيق، كانت تحرص على أن تعلمنا أن الجمالَ صنوُ الاغتراب، وأن السفر والرحيل سمو الحالمين المتدرجين في مسالك العارفين، وأن رائحة الله تُشم في أدقّ، كي لا أقول أضعف خلقه، وأن الأحلام الجميلة ليست تلك التي نراها وقد تحققت، بل تلك التي نشتهيها والصعبة المنال، لأنها وحدها تُبقينا يقظين، وهي أبهى التباسات الوجود. وتلح دوما علينا: “حين يتقرّب منكم الناس لتقتسموا معهم مأدبة سعادة، لا تغلقوا شهيتهم بطابق ما يؤلمكم”

أمي فاطمة كانت لي وشما، وقد عشقت اسمها بلا حدود، مثل ذاكرة قطعة موسيقية تتردد في كل المواسم بلا كلّ أو تعب، كانت تُهين خيبات العالم بجمالها، وتُغيض من يسيء إليها باستعارة شاردة أو مثل غير دارج على الألسن.. لم تحب يوما سهري حتى آخر الليل، كانت عدوي الوحيد في سرقة الشمع، وفي إخفاء قنينة الزيت التي اجتهدتُ في أن أصنع وسطها فتيلا من ثياب بالية، كان يبدو لي مثل أفعى مستلقية في قعر صحن أسقيه كلما وهنتْ ذبالته.. وفيما يشبه اللعب السري، نجحتْ في تجفيف ما ينير درب ليلي، ونجحتُ فيما أديم به عتمة ليلها من خلال الأغطية والأثواب الداكنة التي كنت أثبتها ببراعة كل ليلة على البيت والنافذة كي لا يتسلل شعاع سهري ليصيب ظلمة نومها، وكنا نقتسم الليل في حراسة بعضنا، كل خائف على ما يعتبره كنزه الذي لا يفنى.

ظلت قوية حتى آخر لحظة، بلا توتر أو قلق، لم تغب تلك الحمرة الشفيفة التي تغطي تقاسيم وجهها المضاء بسحر الداخل، مؤمنة أيّما إيمان بأنها أخذت ما يكفي من حصتها في الهواء، وتقاسمت قلبها مع كل من جاوروها.. أتذكر ذلك المساء حين اختبأ الصوت في حنجرتها ولم تعد قادرة على الكلام، كان الريح الخارج من رئتيها مثل رسالة الوداع الأخير.. قبل أن ننقلها إلى سيارة الإسعاف ذات ربيع.. غيّرتْ ملابسها بعناية استثنائية، اختارت ألوانا زاهية تليق بالفرح، رشّت رذاذ عطر “حلم الذهب” على أماكن النبض في جسمها، معصمها وخلف أذنيها، وارتدت كامل حِليها بلا عجل، كما لو أرادت لمعنى موتها شكلا اختارته ببهاء الذاهبين إلى انتكاساتهم بفرح الأبطال الخالدين.. مثل عروس زُفّت للموت، كانت في وضع بورجوازي متصالحة مع قدرها، ونحن وحدنا السذج الذين ثقنا بأنها ستعود كما فعلتْ مرارا، حتى اعتقدنا خلودها وأن الموت أسقطها من جدول أعماله إلى الأبد.. انحلّ بدنها وذابت بغنج في أحضانه، لم تكن تريد غير أن تكون حرة.. بدت مثل بطل “الحزن العميق” حين قال: “إنني أقرر أن الموت كان المعنى السري لحياتي وإنني عشت لأموت، إنني أموت لأشهد بأن من المستحيل أن يعيش الإنسان”. رحلت بشموخ بين يدين رؤوفتين ووجوه حملت ندب فقدها حتى اللحظة مثل جرح.

سارة البوفي كاتبة وصحفية بالمؤسسة الإعلامية الرسالة… إعرف المزيد حول هذا الكاتب



الثلاثاء 22 أكتوبر 2024
في نفس الركن