كتاب الرأي

"قدم واجب العزاء وانصرف" : ساكنة القرى المجاورة لمدينة بولمان تخلق الحدث


أود أن أقدم هنا أحر عبارات تقديري وإعجابي لكل ساكنة القرى المحيطة بمدينة بولمان على مبادرتهم الراقية المتبصرة التي توافقوا جميعا خلال الأيام القليلة الماضية بشأنها، نساء ورجالا من مختلف الأعمار، والتي تقوم على أنه في حالة وفاة أحد أفراد أسرة في إحدى هذه القرى لا تقوم أسرة الفقيد بتقديم "عشاء القبر" أو "عشاء الثالث" أو بالأصح "وليمة الموت" للمعزين .



بقلم: نجيب ميكو

إذ إتفق سكان هذه القرى على قلب المعادلة ووضع عادة اجتماعية مازو-سادية على قدميها عوض تركها على رأسها، بأن يحضروا في حالة حدوث وفاة إلى منزل الهالك لتقديم واجب العزاء لأسرته وأن يساعدوها هم بمختلف الوسائل من طعام أو مال، كل حسب استطاعته، ثم ينصرفوا كل إلى حال سبيله. ومن هنا ابتكروا هذا الشعار المتميز والسلوك المتحضر : "قدم واجب العزاء وانصرف". 


لا أخفي أنني من الحاملين لهذه الفكرة التي هي من قناعاتي الشخصية منذ زمن طويل، إلا أنني لا أخفي أيضا فشلي الذريع في إقناع من حولي بها لأن "حفل الوفاة" أو"وليمة الوفاة" أو بالأصح "استعراض الوفاة" قد عشش في أعماق السلوك الجمعي لكل الأسر مع كامل الأسى والأسف، مما جعل أقوى وسائل الإقناع الدينية والمنطقية والعاطفية التي أتقدم بها كفرد تتساقط كأوراق الشجر أمام يقين وعناد هذا السلوك الجمعي .


تصوروا معي أنه قبل دفن المتوفى تنطلق عملية نصب الخيام في الأزقة الضيقة ويتم تجهيزها بالكراسي وطاولات الأكل وكذا الأمر في الشقق بمختلف أحجامها والمنازل المستقلة على حد سواء. وبمجرد العودة من الدفن تنطلق "احتفالات" تقديم الأكل والشاي ثم العشاء الدسم إن تم الإتفاق على أن يكون "عشاء القبر" في نفس اليوم أو أن يتم تأخيره لليلة الغد أو لليلة الثالثة حسب تقاليد كل أسرة .


إنه لشيء مقزز مؤلم مخزي أن نحول فاجعة الموت وما يصاحبها تلقائيا من دموع وصراخ وألم وحرقة بسبب فراق عزيزة أو عزيز علينا، إلى وليمة بكل ما تفرضه هذه الوليمة المؤلمة من تنظيم ومصاريف كثيرة يتم اقتراضها في حالات عديدة من طرف عائلة المتوفى أو فرضها على أعضائها فرضا حفاظا على ماء الوجه .


علما بأن أسرة الفقيد يمكن أن تتكون من أطفال صغار وأم لا حول لها ولا قوة، كلهم يتقطعون ألما على فراق أب أو زوج أو أم أو إبن أو جد وهم الأولى بأي مبلغ يضطرهم الفكر الجمعي اضطرارا إلى صرفه بمناسبة هذا المصاب الجلل .


وعلما أيضا أن الأسر المغربية في مجملها حسب المندوبية السامية للتخطيط، تتأرجح حالتها المادية بين التواضع والتوسط ولها من الالتزامات المادية المختلفة ما لا يسمح لها بإقامة "وليمة" كضريبة أقرها الفكر الجمعي على وفاة قريب .


إن واجب وضع حد لهذه الظاهرة المسكوت عنها بفعل تواطئ اجتماعي ظالم والتي تعد انتهاكا صارخا لحميمية أسر في حالة ألم وحرقة، وتعريضا لها لحرج مادي لا قبل لها به، ليس قضية فرد أو بضعة أفراد هنا أو هناك بل هي قضية مجتمع مدني برمته وكل طاقاته الواعية التي أعطتنا ساكنة قرى بولمان أبهى وأرقى وأسمى نموذج عن تعبيراته وقدراته ومستوى نضجه. فالمرغوب والمطلوب اليوم هو أن تتملك طاقات وفعاليات أخرى من مجتمعنا المدني هذه المبادرة الخلاقة من أجل التوعية الجماعية بها والعمل والحرص على الإرتقاء بها إلى مستوى سلوك جمعي جديد منطقي ونافع يضع حدا "لوليمة الوفاة" التي ديننا براء منها، ويعوضه "بقدم واجب العزاء وانصرف" .

شكرا وهنيئا لكن ولكم جميعا يا سكان قرى مدينة بولمان الأبية .

سارة البوفي كاتبة وصحفية بالمؤسسة الإعلامية الرسالة… إعرف المزيد حول هذا الكاتب



الجمعة 1 شتنبر 2023
في نفس الركن