سارة البوفي : l'odj arabe
في الجناح الذي يعالج فيه صديقي الصغير " سفيان " في أحد مستشفيات الأطفال بالرباط ، هناك سبعة أطفال آخرين ، تتراوح أعمارهم بين 4 و 12 سنة .
وكان الأطفال الصغار جميعا ما عدا واحدة ضحايا لشتى أنواع سرطان الدم ، ومقضيا عليهم بقصر الحياة ، أما المستثناة من بينهم فكانت عبير الجميلة ، خضراء العينين وذهبية الشعر لاتتجاوز العاشرة من عمرها ، وتخضع مع الأطفال الآخرين لنظام علاجي معقد سينتهي بها إلى الشفاء والعودة إلى بيتها لتعيش حياة سليمة .
ومع أنها على نقيضهم قد كُتِبَتْ لها الحياة ، فإنهم كانوا يتعاطفون معها تعاطفا خالصا عميقا ، كما تبين لي من زياراتي اليومية لصديقي ، ومن أحاديثي التي لم تقتصر عليه ، لأن المحنة جمعت بين هؤلاء الأطفال وجعلتهم يتقاسمون كل ما لديهم ، بما في ذلك الآباء والأمهات .
أما سبب التعاطف ، فهو العملية الجراحية المعقدة التي أجريت لعبير خلف الأذنين ، والتي ترتب عنها فقدانها لحاسة السمع في ما بعد ، وهي تخطو في سبيله خطوات حقيقية بلغت مدى بعيدا ، ولن تنقضي بضعة أشهر حتى تفقد السمع تماما وعلى نحو لا مرد له .
وكانت عبير من هواة الموسيقى المتحمسين ، ولها صوت صاف بديع وموهبة ملحوظة في العزف على البيانو ، فضاعف كل ذلك من مأساة صممها الحتمي ، ولكنها صمدت ولم تَبدُ منها أي شكوى على الإطلاق بيد أنها ، من وقت لآخر ، عندما تتأكد ألا أحد يراقبها ، كانت تذرف الدموع خلسة فتملأ عينيها الجميلتين و تنساب على خذيها .
كانت عبير تهوى الموسيقى أكثر من أي شيء آخر ، وتحب الإصغاء إليها بمقدار ما تستمتع بعزفها .
وغالبا ما تأثروا الأطفال الآخرون ، كما ذكرت ، تأثرا عميقا بمحنة الفتاة الصغيرة ، فقرروا القيام بشيء يبعث البشرى في نفسها ، ثم انطلقوا لإحاطة الممرضة الأولى بالأمر
.
أما " الباتول " ، كما يسميها الآباء والأمهات والأطفال على السواء ، شابة نحيلة ، طويلة القامة ، رهيبة الطلعة ، توقع الرعب في من يراها للوهلة الأولى ، ولكن الأطفال لم يهابوا مظهرها الفظ، ماداموا يدركون أنها صديقتهم .
وفُوجٍئَت " الباتول " في البداية بما أبلغوها إياه ، وصاحت ، أتريدون إقامة حفلة موسيقية لمناسبة عيد ميلاد عبير الحادي عشر ؟ وتقولون إن ذلك يقع بعد ثلاثة أسابيع ؟
وما إن لاحظت علامات الخزي والاكتئاب على وجوههم حتى استدركت " إنكم جميعا مجانين ولكنني سوف أساعدكم ".
ولم يطُلِ الأمر بـ" الباتول " كي تفي بوعدها ، حيث أسرعت إلى الهاتف في قاعة جلوس الممرضات واتصلت برقم جمعية للموسيقيين المتطوعين يقع على مسافة قريبة من المستشفى وحددت معهم موعد الاحتفاء بعبير ، ليقرروا تكوين مجموعة موسيقية صغيرة من أطفال لم يتلَقَّ أحد منهم أي تدريب موسيقي خلال ثلاثة أسابيع إلى جوقة غنائية مقبولة الأداء لإحياء حفلة موسيقية .
وبعدما تقرر الأمر ، راح المدرب يدرب الأطفال يوميا أثناء غياب عبير في فترة علاجها ، وحدث الشيء الذي يتجاوز التصديق ، ففي خلال الأسابيع الثلاث ، تمكنت الباتول والمدرب الموسيقي ، من تحويل ستة أطفال يحتضرون ، ولا يتمتع أي منهم بأي موهبة موسيقية يعتد بها ، إلى جوقة غنائية مقبولة الأداء .
وقد تملكت الدهشة الطفلة عبير حين وجدت نفسها في مبنى بجانب المستشفى عصر يوم عيد ميلادها ، جالسة على كرسي للمقعدين .
وكان المستمعون العشرة من الآباء والأمهات وثلاث ممرضات ، قد جلسوا على مسافة متر واحد تقريبا من المنصة ، وعلى الرغم من صعوبة رؤية وجوه المنشدين بوضوح ، إلا أننا لم نجد أي مشقة في سماعهم وهم ينشدون مجموعة متنوعة من الأغاني ، وكلها مما تحبه عبير وتفضله ، وكان المدرب قد نبه المنشدين قبل بدء البرنامج أن ينشدوا عاليا بمقدار ما يستطيعون ، وحققت الحفلة الموسيقية نجاحا كبيرا .
لا شك أن المرء القريب الصلة بالأطفال المحتضرين ، أو المصابين بأمراض لا يُؤمَلُ شفاؤها ، يدرك أن ما يحطم القلب في أوضاعهم ليس اليأس الذي يحيط بهم ، أو الآلام الجسدية التي يعانون ، بل هو مايبدونه من صمود وشجاعة في وجه قدر غالب ، فذلك حقا ما يبعث على الأمل .
ويؤسفني ألا يكون لدي برنامج مطبوع أعرضه عن أروع حفلة موسيقية شهدتها وظلت في ذاكرتي ، كما يؤسفني ألا توجد لدي أي قصاصات من الصحف التي تحدثت عن الحفلة بإعجاب ، ورغم ذلك ، فإنني لم أسمع في حياتي كلها ولا أتوقع أن أسمع موسيقى أروع من تلك التي سمعتها فيه ، وما زالت أذناي ترددان أصداء كل نغمة من نغماتها كلما أغمضت عيني .
وصمتت تلك الأصوات الصغيرة ، وأَغرَقَ في النوم الأبدي كل أعضاء الجوقة المنشدون ولكنني واثقة من أن عبير ، التي تعافت ، لا تزال تصغي في ذاكرتها إلى تلك الأصوات الصغيرة التي كانت آخر ما وَعَتهُ أذناها .
وكان الأطفال الصغار جميعا ما عدا واحدة ضحايا لشتى أنواع سرطان الدم ، ومقضيا عليهم بقصر الحياة ، أما المستثناة من بينهم فكانت عبير الجميلة ، خضراء العينين وذهبية الشعر لاتتجاوز العاشرة من عمرها ، وتخضع مع الأطفال الآخرين لنظام علاجي معقد سينتهي بها إلى الشفاء والعودة إلى بيتها لتعيش حياة سليمة .
ومع أنها على نقيضهم قد كُتِبَتْ لها الحياة ، فإنهم كانوا يتعاطفون معها تعاطفا خالصا عميقا ، كما تبين لي من زياراتي اليومية لصديقي ، ومن أحاديثي التي لم تقتصر عليه ، لأن المحنة جمعت بين هؤلاء الأطفال وجعلتهم يتقاسمون كل ما لديهم ، بما في ذلك الآباء والأمهات .
أما سبب التعاطف ، فهو العملية الجراحية المعقدة التي أجريت لعبير خلف الأذنين ، والتي ترتب عنها فقدانها لحاسة السمع في ما بعد ، وهي تخطو في سبيله خطوات حقيقية بلغت مدى بعيدا ، ولن تنقضي بضعة أشهر حتى تفقد السمع تماما وعلى نحو لا مرد له .
وكانت عبير من هواة الموسيقى المتحمسين ، ولها صوت صاف بديع وموهبة ملحوظة في العزف على البيانو ، فضاعف كل ذلك من مأساة صممها الحتمي ، ولكنها صمدت ولم تَبدُ منها أي شكوى على الإطلاق بيد أنها ، من وقت لآخر ، عندما تتأكد ألا أحد يراقبها ، كانت تذرف الدموع خلسة فتملأ عينيها الجميلتين و تنساب على خذيها .
كانت عبير تهوى الموسيقى أكثر من أي شيء آخر ، وتحب الإصغاء إليها بمقدار ما تستمتع بعزفها .
وغالبا ما تأثروا الأطفال الآخرون ، كما ذكرت ، تأثرا عميقا بمحنة الفتاة الصغيرة ، فقرروا القيام بشيء يبعث البشرى في نفسها ، ثم انطلقوا لإحاطة الممرضة الأولى بالأمر
.
أما " الباتول " ، كما يسميها الآباء والأمهات والأطفال على السواء ، شابة نحيلة ، طويلة القامة ، رهيبة الطلعة ، توقع الرعب في من يراها للوهلة الأولى ، ولكن الأطفال لم يهابوا مظهرها الفظ، ماداموا يدركون أنها صديقتهم .
وفُوجٍئَت " الباتول " في البداية بما أبلغوها إياه ، وصاحت ، أتريدون إقامة حفلة موسيقية لمناسبة عيد ميلاد عبير الحادي عشر ؟ وتقولون إن ذلك يقع بعد ثلاثة أسابيع ؟
وما إن لاحظت علامات الخزي والاكتئاب على وجوههم حتى استدركت " إنكم جميعا مجانين ولكنني سوف أساعدكم ".
ولم يطُلِ الأمر بـ" الباتول " كي تفي بوعدها ، حيث أسرعت إلى الهاتف في قاعة جلوس الممرضات واتصلت برقم جمعية للموسيقيين المتطوعين يقع على مسافة قريبة من المستشفى وحددت معهم موعد الاحتفاء بعبير ، ليقرروا تكوين مجموعة موسيقية صغيرة من أطفال لم يتلَقَّ أحد منهم أي تدريب موسيقي خلال ثلاثة أسابيع إلى جوقة غنائية مقبولة الأداء لإحياء حفلة موسيقية .
وبعدما تقرر الأمر ، راح المدرب يدرب الأطفال يوميا أثناء غياب عبير في فترة علاجها ، وحدث الشيء الذي يتجاوز التصديق ، ففي خلال الأسابيع الثلاث ، تمكنت الباتول والمدرب الموسيقي ، من تحويل ستة أطفال يحتضرون ، ولا يتمتع أي منهم بأي موهبة موسيقية يعتد بها ، إلى جوقة غنائية مقبولة الأداء .
وقد تملكت الدهشة الطفلة عبير حين وجدت نفسها في مبنى بجانب المستشفى عصر يوم عيد ميلادها ، جالسة على كرسي للمقعدين .
وكان المستمعون العشرة من الآباء والأمهات وثلاث ممرضات ، قد جلسوا على مسافة متر واحد تقريبا من المنصة ، وعلى الرغم من صعوبة رؤية وجوه المنشدين بوضوح ، إلا أننا لم نجد أي مشقة في سماعهم وهم ينشدون مجموعة متنوعة من الأغاني ، وكلها مما تحبه عبير وتفضله ، وكان المدرب قد نبه المنشدين قبل بدء البرنامج أن ينشدوا عاليا بمقدار ما يستطيعون ، وحققت الحفلة الموسيقية نجاحا كبيرا .
لا شك أن المرء القريب الصلة بالأطفال المحتضرين ، أو المصابين بأمراض لا يُؤمَلُ شفاؤها ، يدرك أن ما يحطم القلب في أوضاعهم ليس اليأس الذي يحيط بهم ، أو الآلام الجسدية التي يعانون ، بل هو مايبدونه من صمود وشجاعة في وجه قدر غالب ، فذلك حقا ما يبعث على الأمل .
ويؤسفني ألا يكون لدي برنامج مطبوع أعرضه عن أروع حفلة موسيقية شهدتها وظلت في ذاكرتي ، كما يؤسفني ألا توجد لدي أي قصاصات من الصحف التي تحدثت عن الحفلة بإعجاب ، ورغم ذلك ، فإنني لم أسمع في حياتي كلها ولا أتوقع أن أسمع موسيقى أروع من تلك التي سمعتها فيه ، وما زالت أذناي ترددان أصداء كل نغمة من نغماتها كلما أغمضت عيني .
وصمتت تلك الأصوات الصغيرة ، وأَغرَقَ في النوم الأبدي كل أعضاء الجوقة المنشدون ولكنني واثقة من أن عبير ، التي تعافت ، لا تزال تصغي في ذاكرتها إلى تلك الأصوات الصغيرة التي كانت آخر ما وَعَتهُ أذناها .