كتاب الرأي

"ضعف الأخذ بسبل البحث العلمي وتطبيق نتائجه من عوامل ضعف منظومة التربية والتكوين "


على الرغم من أهمية الدور الذي يسهم به البحث العلمي عموما والتربوي على وجه الخصوص، في تنمية قطاع التعليم بجميع أسلاكه، وإصلاحه وتطويره وتجديد مناهجه والتعرف على جوانب الخلل فيه، في منظومة التربية والتكوين، على نتائج البحوث التربوية وإشراكهم فيها، إلا أنه توجد بعض المؤشرات في نظامنا التعليمي، تجعل العديد يتشكك في فعالية دور البحث العلمي والتربوي في واقع الممارسة في مدارسنا وجامعاتنا ومؤسسات التكوين المهني وبخاصة مؤسسات تكوين المدرسين. الأمر الذي يدعو إلى دراسة هذا الدور وتحديد أبعاده على أسس علمية، والكشف عن واقعه. علما أن أغلب الكتابات التربوية لا تزال عندنا، تتلون بألوان التيارات الفكرية السائدة، سواء كانت تقليدية، أو حداثية... دون أن تصل إلى مستوى الإبداع والابتكار والتميز، والذي يؤهلها لتصنّف كإنتاجات عالمية، ولعل من أهم مظاهر ضعف البحث العلمي وفي نفس الآن عوامله، هناك:



بقلم: الدكتور محمد الدريج أستاذ باحث في علوم التربية

1- غياب مخططات وشبكات البحث:
 
نلاحظ ضعف التخطيط للبحث العلمي والتربوي وضعف شبكات وعلاقات التواصل بين الجامعات وبين مؤسسات التكوين ومراكز البحث...ومن نتائج ذلك ، ضعف التعاون ، تكرار البحوث ،انعدام التراكم، الابتعاد عن المواضيع ذات الاهمية وضياع الوقت في القضايا الهامشية... .

 
 ولعل هذه الوضعية، نتيجة منطقية لغياب مختبرات علمية فعالة وشبكات بحثية، خاصة في علوم التربية، ومدعومة بمشاريع تربوية مجتمعية، تدافع عنها الطبقة السياسية، وتسعى بكل إمكاناتها إلى تحقيقها على جميع الأصعدة، لذلك تظل أغلب الأعمال العلمية لباحثينا، ثمرة مجهودات فردية ومبعثرة ترتبط أكثر ما ترتبط بالحصول على الشهادة وتحسين الوضعية الإدارية .  
 
ويعتقد عزيز بوستا الاستاذ والبــاحث بالمركز الجــهوي لمــهن التــربية والتــكوين في طــــنجة، "أنه و على المستوى المهني في المؤسسات التربوية، ومراكز تكوين الأساتذة؛ تعيش علوم التربية والبحث التربوي حالة اغتراب؛ إذ غالبًا ما يتم التعامل معها كنظريات وأفكار للاستهلاك "التكويني"، أو من أجل اجتياز امتحانات الترقية والتوظيف، وقلّما يُنظر إليها باعتبارها عنصرًا أساسيًّا في بناء الكفاية المهنية لأي مدرّس، ومفتاحًا رئيسا لتحليل الممارسة المهنية، وفهمها، والتحكم بها" .
 
"ولعل هذا المنظور الضيق لعلوم التربية يرجع، بالإضافة إلى ضعف مأسسة البحث العلمي الموجّه والمدعّم من طرف الدولة، إلى التأخر الملحوظ لدى القاعدة العريضة لمجتمعنا العربي/المسلم في الأخذ بناصية العلم، والعقلانية، والانفتاح الإيجابي على أي جديد" .

 
مجتمع لم ينضج فيه الرأي العام بعد، ولازالت استطلاعات رأيه تبتعد كثيرًا عن الحقائق الموضوعية، ولم يتجاوز منطق التفكير العشائري والقبلي، ولم تعصف بأفكاره التقليدية رياح التنوير، مع ضعف الإمكانيات اللوجيستيكية، وهشاشة البنيات التحتية، وغياب التحفيز، سيبقى مرتبطًا، حتى في أرقى المهن، كمهنة التدريس، بنماذج وباراديكمات تقليدية في التدريس، تنزع نحو الجوانب التقنية البسيطة (جذاذات، تقنيات)، وتنفر من كل ما له علاقة بالتنظير والتجديد والمغامرة .

 
 وحتى عندما تطرح سلطات التربية والتكوين نماذج نظرية بديلة كالباراديكم (عملي، نظري، عملي)، على سبيل المثال والذي بنيت عليه عدة تكوين المدرسين الجديدة، إلا أنها لا توفر له كل شروط النجاح، وأهمها، التكوين المستمر والمعمّق للمدرسين لاستيعابه وتنفيذه. ( عن عزيز بوستا:"حوار حول الفلسفة والتربية"، حاوره بربزي عبد الله ،مارس 2017 ،على موقع  مؤمنون بلا حدود: http://www.mominoun.com/articles) .
 
  
2- انعدام أو ضعف الوسائط المعرفية:
 
والتي يكون من مهامها الرئيسة توصيل أولويات العمل والبحث من صناع القرار إلى الباحثين ونقل نتائج البحث العلمي لتكون أولويات للسياسة التعليمية و للإصلاح ... (نشير إلى أن المجلس الأعلى مطالب مبدئيا بهذا الدور) . إذن الوسيط يمكن أن يوجه البحوث واختيار المواضيع والاشكالات ومن جهة اخرى يحدد او على الاقل يبلور اولويات السياسة التعليمية .  (.السيدة محمود إبراهيم سعد ،2011  ) .

 
لكل ذلك ونظرا لضعف التواصل ،بالاضافة إلى أن الجهات العلمية لا تبذل الجهد الكافي لنشر وتبليغ نتائج بحوثها العلمية ،والجهات المسؤولة ليس لديها لا الوقت ولا التخصص الكافي ... نقترح في سبيل تجاوز هذه العوائق ،تطوير الوسائل وقنوات تفعيل دور الوسيط من خلال:
 
- الإكثار من المنشورات المحكمة الورقية والالكترونية و اللقاءات والمؤتمرات والبرامج الاعلامية المختصة والهادفة...
-وإنشاء شبكات ومنصات المعلومات ولا بأس أن نذكر هنا ،بالمنصة التي وضعتها وزارة التعليم العالي المغربية ،تحت مسمى "أطروحتي" لمساعدة الاساتذة الباحثين والطلبة ،فضلا عن موقعها وموقع وزارة التربية الوطنية وغيرها على الانترنيت... 

 
- كما نقترح أن تتولى الوكالة الوطنية لتقويم و ضمان جودة مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي( ANEAQ)، ، فضلا عن المجلس الأعلى للتعليم ، بعض مهام الوساطة بين الباحثين عموما وبين المسؤولين صناع القرار في وزارة التربية الوطنية .
 
3 - العامل السياسي :
 
- نلاحظ أن السلطات السياسية لا تلجأ دائما لنتائج البحوث العلمية ، خاصة إذا رأت فيها ما يمكن أن يتعارض مع توجهاتها وربما مع مصالحها، أما إذا حدث العكس فإنها قد تجعل من نتائج البحوث وسيلة لتبرير اختياراتها وقراراتها .
 
- كما نلاحظ اختلاف العقلية و الخلفية العلمية اسلوب العمل والمنهجية والالتزام المهني... ما بين المسؤولين/ صناع القرار وما بين الباحثين .
 
-  ما يميز اتخاذ القرار في كثير من الأحيان ضرورة الاستجابة السريعة وعدم الصبر...في حين أن عمل الباحثين يتطلب بعض الوقت ويتميز بالبطء والحذر ...
 
 - البحوث تتناول في العادة وتوخيا للدقة ، جانبا جزئيا من الموضوع وبنوع من التخصص ومن التحديد ، وتشتغل على عينة صغيرة وتركز على بعض الأدوات مثل الاستبيان او الاختبارات... في حين أن صاحب القرار الذي يروم الاصلاح والذي يتعامل مع قضايا شائكة ومعقدة كأزمة التعليم مثلا وضعف مناهجه وبلائها وعدم مسايرتها للمستجدات، مفروض عليه النظرة الشمولية والأخذ بالاعتبار، الظروف المجتمعية والضغوط السياسية والمالية و والظرفية الدولية ... 
 
- قد تصاغ نتائج البحوث بمفاهيم وعبارات صعبة وقد تكثر من البيانات والاحصاءات والجداول...في حين يكون السياسي في حاجة لإجابات وحلول إجرائية وواقعية سريعة وذات طبيعة إجمالية .
 
- البحوث في الغالب ما تكون فردية ، لغاية الحصول على الشهادة وللترقية المهنية، و قليلة هي البحوث الجماعية، ومن هنا ربما سبب تشكيك البعض في موضوعيتها ونزاهتها ، ويفضلون اللجوء إلى مكاتب الدراسات والخبرات الاجنبية...
 
- مشكلة الاحصائيات : قلة وضعف المعطيات الدقيقة والمتخصصة ، تضارب في الاحصائيات ، تضخيم بعض الارقام لأغراض سياسية وغيرها...
 
- مشكلة الاطلاع على البيانات و الحق في الوصول الى المعلومة . (سيف الإسلام علي مطر، 2006 ) .
 
 
4 - عدم الاستقرار العلمي والقطيعة بين المجتمعات العلمية نفسها .
 
الفجوة والجفاء ليس فقط بين السياسيين والباحثين ، بل ما نلاحظه في الحقيقة هو ازدياد الشكوى من القطيعة في النشاط التربوي كتعبير عن مشكل الهوة التي تفصل بين نتائج البحوث والنظريات العلمية عموما وبين ممارساتنا خاصة على مستوى تكوين المدرسين .
 
- كما نجد من يتحدث بمرارة عن القطيعة بين المجتمعات العلميةنفسها وبين الباحثين ،ربما أحيانا في نفس المؤسسة أو الكلية، والتي من المفروض أن تنضج النظريات وتنشأ النماذج في أحضانها .
 
إذن هناك نوع من عدم الاستقرار العلمي وقد لا نغالي إذا قلنا بأن القطيعة يعاني منها الباحث الواحد ذاته والذي يتيه بين العديد من الاختصاصات ويغازل الكثير من النماذج و الباراديكمات .
 
5- وعلى سبيل الختم ، نتساءل :
 
 - ما هي أسباب تلك القطائع وما أسباب حالة انعدام الاستقرار العلمي ؟
 
- وهل  تزيد إشكالية اختيار الخلفية النظرية للبحث والاسس العلمية للمناهج التعليمية على مختلف المستويات و للأداء التربوي عموما، من تعميق أسباب الفجوة وربما القطيعة ، أي ما نسميه بوضعية "التشويش الباراديكمي"، المتمثلة سواء في تعدد المشارب والنظريات بتعدد الأساتذة وبتعدد الجامعات والمصادر الأجنبية التي ينهلون منها في بحوثهم وفي أطروحاتهم...  أو في غياب أو انعدام الوضوح أصلا  بالباراديكم. وما ينتج عن ذلك من اختلاط في الخلفية النظرية للبحوث التربوية؟ .
 
-أم يكمن المشكل في استيراد النماذج وإنزالها في سياق غير سياقها ...وما دور الجهات الأجنبية الممولة للبحث من منظمات دولية ومكاتب للدراسات والتي قد تفرض على الباحثين المحليين والمسؤولين عن الشأن التربوي نماذج معينة، تلائم أجندتها ولا تساير بالضرورة الأولويات الوطنية والحاجيات الحقيقية للمواطنين؟ .
 
وقد تكون الإجابة عن هذه التساؤلات منطلقا لإشكاليات بحثية  لدراسات أكثر شمولية للكشف عن أسباب ضعف البحث العلمي وسبل النهوض به وبالتالي النهوض بالمدرسة المغربية وبجامعاتنا . 

سارة البوفي كاتبة وصحفية بالمؤسسة الإعلامية الرسالة… إعرف المزيد حول هذا الكاتب



الثلاثاء 17 أكتوبر 2023
في نفس الركن