كتاب الرأي

سطحية الاستشراق ( ما قبلها و بعدها )


علميا لتحليل بعض مظاهر الدين الإسلامي و دراسة خصوصياته بمناهج أنثروبولوجية و سوسيولوجية و تاريخية، تتجاوز مستوي العامي و السطحي إلى العمق الأكاديمي المتنوع و المتعدد الأبعاد، لا يجوز الإسقاط المتسرع لنتائج الدراسات التحليلية ( ذات البعد البرجوازي العلماني ) المنتقدة لاستبداد الكنيسة المسيحية و تحجرها المعرفي خلال العصور الوسطى على الدين الإسلامي الذي قامت أسسه المعرفية على مبدأ الحرية و تصحيح الأخطاء و المواقف الكهنوتية للكنيسة المسيحية ...



 كما أنه من المطلوب  شرطا علميا للدارس أن لا يبقى سجين النظرة الغائية الاستعمارية للكثير من الاتجاهات الإستشراقية الصليبية التبريرية للإحتلال ( من طرف الاستعمار الإمبريالي المتغطرس بشقيه الغربي و الشرقي ) التي تعتمد مناهج أنثربولوجية و إثنوغرافية غايتها التشويش على  الهوية بهدف مسح الذاكرة  الثقافية الأصلية و تفكيك وحدة القبائل و العشائر و ضرب الرموز الروحية و المادية  للبلدان والشعوب المستهدفة ( إسلامية و غير إسلامية ... ) و إستنساخ خصوصيات مجتمعات أخرى غريبة عنها و إسقاطها عليها لتسهيل احتلالها قصد نهب خيراتها المعدنية و الفلاحية و البشرية،... 

 و من ثمة كان وجوبا على أي باحث التحري الأكاديمي الدقيق لتجنب الوقوع في فخ التأثر بالطروحات الأيديولوجية  و النظريات الغائية االتسطيحية و التبريرية لمخططات سياسية و اقتصادية تقوم على الدعاية و الإشهار الخفي للتطبيع مع الاحتلال  و الاستبداد و الظلم الاستعماري و الهيمنة الإمبيريالية المتوحشة التي لا تتوانى عن شراء الضمائر و تمويل البحث العلمي التبريري و الإعلامي الدعائي بسخاء ملحوظ لتعزيز أهداف استراتيجيتها الاستعمارية. 

 و عليه فإن البحث العلمي الصرف و النزيه له خصوصيات وشروط أهمها إطلاقا الموضوعية و الحياد و التحري الدقيق و الحفر الأركيولوجي العميق في تاريخ الموضوعات ( أصولها و تفرعاتها... ) و عدم الاكتفاء   بالإستنتاجات السطحية المتسرعة و بناء مواقف على مجرد انفعلات ذاتية آنية أو الانتصار أيديولوجيا لجهة على حساب جهة أخرى زورا و بهتانا و اصطفافا و تخندقا بقناعات غير موضوعية و متغطرسة...
و كذلك يفعلون مرضى الطقطقات و المزايدات و حب الظهور... يملؤون الدنيا جعجعة بلا طحين و طنينا فقط من أجل الطنين...


 و لذلك فإن القيام بانتقاد بعض مظاهر الإختلال السلوكي المجتمعي كعدم التوازن القيمي و الأخلاقي و الإزدواجية المرضية في شخصية الأفراد و الجماعات بين الحداثة مظهرا و التقليد عمقا و باطنا بسبب مخلفات الاستعمار و تقهقر التعليم و تفشي عاهة الأمية العلمية المستدامة و ليس فقط الأبجيدية أو المدرسية إلى جانب تغلغل المرض و الفقر في شرائح واسعة من المجتمع تحت ظل استقالة بعض مؤسسات الدولة السياسية و الإدارية و الإعلامية و الإجتماعية عن القيام بأدوارها في توعية و توجيه الساكنة و تأطيرها و تنميتها،... فالإنتقاد على هذا المستوى قد يكون محمودا مقبولا لتنوير الرأي العام و محفزا نسبيا على التغيير و التطور نحو الأحسن، فإنه رغما على كونه كذلك لا يجوز للباحث و الدارس أن يقيمه حجة لتبرير وقوعه في فخ المكر الاستشراقي الكنيسي الاستعماري و القفز بهكذا جرءة و جرة قلم تفتقد للسداد  العلمي الصرف و الدقيق إلى مستوى أعلى لكليات الأمور  للتقرير في موضوعات مجتمعية و تاريخية و دينية كبرى بالإفتراء عليها و الإفتاء فيها بغير علم، بل  فقط بانفعال حماسي ترتب لدى الباحث أو الدارس  عند المستوى الأول البسيط في انتقاد بعض مظاهر الخلل السلوكية الآنية والتي لا تشكل قيمة علمية إلا باعتبارها متغيرات ظرفية غير كافية للبحث العلمي في الخلفيات التاريخية البعيدة و في خصوصيات الزمن الأنثربولوجي لمجتمعات متعددة، مختلفة تنوعت في تميزها عبر صيرورة تاريخية طويلة أكسبتها من  الصلابة و المتانة ما أضحت معها بطبيعة حرية الوجود و قوته لا تقبل إسقاط بعضها على بعض بهكذا جرة قلم خاطئة متسرعة...                                                                                  

مثل ذلك، في مناهج البحث العلمي الأكاديمي الرصين و الدقيق، للدراسات الفزيائية
للطاقة الكونية الهائلة الموزعة و  المننتشرة متدرجة بمشيئة الخالق من أعلى درجات جحيم النجوم و ماغما الكواكب  إلى أبسط فأبسط على سطح بعض الكواكب و الأجرام المتناثرة في الفضاء الكوني اللانهائي و اللامحدود  إلى أقل فأقل مثل ما يوجد في سطح كوكبنا الأرضي من انخفاض لدرجات الحرارة، بسبب بعده عن الشمس و توفره على غلاف جوي واق و رطوبة ماء المحيطات و البحار، إلى مستويات قابلة لإن تتحول معها إلى  درجات  متنوعة و مختلفة من الطاقة مشحونة في قوالب ذات طبيعة ابيوكميائية في إطار مخطوطات جينومية لا حصر لأعدادها و توعاتها:  ( كائنات حية دقيقة كالبكتيريا و المكروبات و الفيروسات. و متوسطة كالحشرات و الزواحف و الأعشاب و الحشائش. و كبيرة كالأشجار و الحيوانات و الأسماك و الطيور،... ) خلايا و ذرات متفاعلة متوالدة متجددة، تأكل بعضها بعضا في سلسلة غدائية لكنه في الواقع التجريدي للأشياء و القيم تبقى عبارة عن أشكال لهيب لنار تأكل بعضها بعضا لتحيى لتستمر مستعرة بدرجات متفاوتة الحرارة و البرودة...

.    و هكذا ذواليك، فإن أي دراسة سوسيولوجية و تاريخية لظاهرة الدين و العقل لا تختلف، وضعيا من حيث العمق الأكاديمي  الموسوعي و الدقيق في آن معا و أهميته الموضوعاتية عن أي دراسة فيزيائية للطاقة الكونية: أصلها، ظواهرها، تعددها، اختلافها و ترابطها...                                                                                           

  ما بعد سرعة الضوء
الإشكال هنا غير مرتبط بالسرعة بقدر ما هو مرتبط بالزمن و التطور المحددين سلفا في برنامج الخلق المخطوط في علم الله الأزلي. فكل شيء بمقدار و لكل أجل كتاب. مثل برنامج الجينوم ( À.D.N ) البرنامج الوراثي للكائنات الحية لكل منها كتابه و مخطوطه الجينومي. و للكون كتابه التكويني و برنامجه الزمني التطوري المخطوط سلفا في علم الله. و كل البرامج من أدق جزئيات الخلية أو الدرة إلى الكواكب و المجرات و العوالم الكونية مترابطة في إتساق هائل متناغم متوازن و متكامل...

فما أقسى ثمن الخيانة
 ليس هناك ما هو أنذل و أبخس و  أقسى مرارة على النفس من خيانة المرء لضميره و مبادئه التي تعاقد بها مع شريك أو جماعة أو عشيرته أو حزبه و وطنه... 
فقد يصل ثمن الخيانة أحيانا إلى عقوبات  الحرمان من بعض أو جل الحقوق المدنية أو الطرد أو النفي و أقصاها عقوبة السجن الانفرادي  المؤبد أو الإعدام...
 لذلك فالدعوة موجهة للمثقف العضوي ( مفردا و جماعة ) للقيام بأدواره في إصلاح و تغيير و تصحيح شوائب عبادة المال و التفاهة التي ابتلي بها المجتمع الآنساني برمته تحت تأثير جشع الرأس ملايين  و التجار المنتجين للتفاهة و التافهين و الذين قد يتحكمون لا قدر الله في زمام مستقبل العالم إلى الأسوء و الحضيض.

يقول ويليام شيكسبير: << إن حشد العقلاء أمر معقد... >> و لم يقدم تعليلا. 
 و عليه، فحسب ما يبدو لي في وقتنا الحالي أن السبب في ذلك بسيط، هو أن  العقلاء ليسوا أئمة و لا تيقنوقراط  و لا ساسة و لا حتى ( فلاسفة أو شعراء )،... إنهم كالأحجار الكريمة ناذرة الوجود.

 إليها الباحثون!
ألى متى سأظل أحمل هم السنين العجاف... يتقوس الكون لا يستقيم بعد انحنائي... و لا عطش يرتوي من ضمئي و جفافي
.إن البحث العلمي يقتضي الموضوعية و تجنب سرعة استنتاج مخرجات بناء على أحكام قيمة ذاتية مسبقة و مواقف شخصية.
 كما أن البحث العلمي ليس مبررا لتخلي الباحث عن مسؤوليته اتجاه القضايا الإنسانية و الاجتماعية و إلا فما غاية الثقافة و العلم آن لم يسعى إلى التغيير نحو تجويد الوجود.
و لهذا فالمثقف العضوي مطالب بالنضال و الصمود و ليس بالاستكانة و التواري خلف البقعة الرمادية و كرسي المتفرج...
فالبناء الأساسي ليس هو البنية التحتية فحسب بل هو بناء الإنسان و بناء المجتمع الديموقراطي و هذا لا يتم إلا بالعلم و الفكر المنتج و الثقافة المرتبطة بالمعيش اليومي و ليس بأحلام و نوافذ الأبراج العاجية...
                                                        
 و ختاما لا يسعنا إلا التعبير عن تعازينا الحارقة لمجتمعات بدأت تفقد أجيالها سدى، أجيال تجري مجرى الرياح و ذكريات قوارب الموت كالأجراس الخرساء على ظهر البحر حكايات و صور يلفها الموج الملغم بلا نهاية...

بقلم:  علي تونسي

سارة البوفي كاتبة وصحفية بالمؤسسة الإعلامية الرسالة… إعرف المزيد حول هذا الكاتب



الجمعة 19 يوليو/جويلية 2024
في نفس الركن