جلال برجس
في أول يوم في بيتنا الجديد الأكثر اتساعًا، والأكثر انغلاقًا ، وقفت إلى النافذة كطائر أعفي من مرابحه في العلو ، ورحت أنظر إليه عبر مسافة قصيرة تمتد منها يدٌ إلى قلبي ، وتعصره بقسوة مفرطة؛ فبكيت ، بكيت مهزومًا أمام شعور غريب وغامض ، يشبه إحساسًا بالفقد ، ويشبه شعور من جردوه من أشيائه الأولى ، وألقوه عاريًا منها في دغل لا يفهم لغاته المتشابكة ، مضى الشهر الأول عليّ بلا سهولة في النوم أمام مطاردة بيتنا الأول لي في مناماتي ؛ منامات من زمن الطفولة ، تلفحني فيها أصوات ، وروائح ، وهمهمات ، ومشاهد ما عادت هنا بعد أن كُسر مفتاح كان له أن يهوّن الأمر على دفاتر الذاكرة ، في اللحظات الحرجة لحنين الآدمي لعشه الأول ، كنت أيامها في السنوات الأخيرة للمدرسة ، تدفعني الأحلام بدراسة الطب ، واجتياز المسافات نحو البلدان البعيدة لأعكف على كتبي المدرسية كما يعكف تائه على شحذ سيفه بانتظار معركة مع وحش كاسر يقف بينه وبين النهر قاتل العطش ؛ فعدت إلى بيتنا الأول طلبًا للعزلة ، أنام في سرير هو لوح معدني يربض على بضعة قطع من الطوب الإسمنتي ، تعلوه فرشة صوفية ، يرافقني ما تحتفظ به البيوت من ذكريات ، البيوت ليست مجرد حجارة تنتمي لقبيلة الجمادات مادامت تسير في درب الذاكرة على نحو يجعلنا نتأملها بمنطق غير مألوف ، ونتساءل عما يمكن أن تقوم به في غفلاننا ، وفي لحظات عجزنا عن إيجاد تصورات جديدة للكون ، لولا البيت لما كانت الذاكرة ، ولولا الذاكرة لكنا كائنات مفرغة تهزها ريح خفيفة ، ترى هل تتساءل البيوت بمنطق المآلات حين نهجرها؟ من الذي يتساءل ؛ الحجارة أم الذكريات؟ يخيل لي أن البيوت كائنات بيننا وبينها عجز تاريخي من الفهم .
في تلك الليالي كنت أتقلب بين ما في البيت من مقتنيات العش الأو ل؛ فأرى الصور البكر وهي لم تنكث عهدها بعدم الهزيمة أمام يفعله بنا الزمن من قفزات ملتبسة نحو الأمام ، وحين انتهى عهد المدرسة ، حل مصير جديد للبيت الأول ؛ إذ باعه والدي لرجل جاء ليستقر في القرية ، كنت أفر فجأة من نومي، وأقف قبالته ، وقد أحكم مالكه بابه بقفل يشبه حكمًا لا رجعة عنه ، أنظر من وراء السور وكل ذلك الزمن ماثل أمام عينيّ كأم باتت في عهدة رجل آخر ، بعد أشهر أتت آلية رفعت ذراعها المعدني عاليًا ، وراحت كأنها تناكفني ، تهوي عليه ببراعة سادية ، كنت أراقب ما يحدث عبر المسافة نفسها بين بيتين في زمنين مغايرين ؛ فرأيتني طفلًا تحملني زوايا البيت ، وتفر بي من مكيدة المعدن ، رأيت قُبلات أمي تتصاعد في الهواء كندف ثلج تعود إلى مكانها قبل السقوط ، رأيت كل شيء يصعد عاليًا : كلمات أبي ، وكركراته ونحن نمتطي ظهره وهو يقلد الحصان في مشيته الرشيقة ، حكايات أمي في ليالي الشتاء المليئة بالبرد ، وزعيق الريح الموحش ، أحلامنا أنا وأخوتي بعد أول مشهد تمثيلي رأيناه على شاشة التلفاز ، أولى الكلمات على الجدران ، أول انتباهاتي لجسدي ، أول تأملاتي لمن وراء هذا الكون ، رأيت كل أشيائنا في ذلك الزمن تغادر الأرض متنصلة من محنة الحجر ، تاركة ورائها غبارًا شعرت به يخرج من رئتي ويصيبني بسعال غريب .
في تلك الليالي كنت أتقلب بين ما في البيت من مقتنيات العش الأو ل؛ فأرى الصور البكر وهي لم تنكث عهدها بعدم الهزيمة أمام يفعله بنا الزمن من قفزات ملتبسة نحو الأمام ، وحين انتهى عهد المدرسة ، حل مصير جديد للبيت الأول ؛ إذ باعه والدي لرجل جاء ليستقر في القرية ، كنت أفر فجأة من نومي، وأقف قبالته ، وقد أحكم مالكه بابه بقفل يشبه حكمًا لا رجعة عنه ، أنظر من وراء السور وكل ذلك الزمن ماثل أمام عينيّ كأم باتت في عهدة رجل آخر ، بعد أشهر أتت آلية رفعت ذراعها المعدني عاليًا ، وراحت كأنها تناكفني ، تهوي عليه ببراعة سادية ، كنت أراقب ما يحدث عبر المسافة نفسها بين بيتين في زمنين مغايرين ؛ فرأيتني طفلًا تحملني زوايا البيت ، وتفر بي من مكيدة المعدن ، رأيت قُبلات أمي تتصاعد في الهواء كندف ثلج تعود إلى مكانها قبل السقوط ، رأيت كل شيء يصعد عاليًا : كلمات أبي ، وكركراته ونحن نمتطي ظهره وهو يقلد الحصان في مشيته الرشيقة ، حكايات أمي في ليالي الشتاء المليئة بالبرد ، وزعيق الريح الموحش ، أحلامنا أنا وأخوتي بعد أول مشهد تمثيلي رأيناه على شاشة التلفاز ، أولى الكلمات على الجدران ، أول انتباهاتي لجسدي ، أول تأملاتي لمن وراء هذا الكون ، رأيت كل أشيائنا في ذلك الزمن تغادر الأرض متنصلة من محنة الحجر ، تاركة ورائها غبارًا شعرت به يخرج من رئتي ويصيبني بسعال غريب .