كتاب الرأي

الفاشية و«الهجرة المستحيلة»: دروس مأساة والتر بنيامين


في زمن الرِدَّة الشعبوية ضد الهجرة واللجوء ، والتي أصبحت سياسة رسمية في كثير من الدول في أوروبا وعند اليمين واليمين المتطرف في أميركا ، لنتذكر مأساة واحد من أعمق فلاسفة ومفكري القرن العشرين ، الذي لم يُسْعِفْه الحظ لكي يَعْبُر انطلاقاً من مرسيليا عبر جبال البيريني إلى إسبانيا ومنها إلى البرتغال فأميركا في ثلاثينات القرن العشرين ؛ وذلك فراراً من بطش النازيين وعَميلَتِهم «حكومة فيشي» في جنوب فرنسا، فاضطر إلى الانتحار عوض مواجهة مخيمات الإبادة النازية في أوشفيتز وغيرها .



لحسن حداد : وزير مغربي سابق وعضو مجلس المستشارين

مناسبة الرجوع إلى والتر بنيامين هو الخطر الذي أصبح مُحْدِقاً بالديمقراطيات الغربية عبر تنامي عود اليمين المتطرف والتوجهات النيوفاشية والنزعات الشعبوية في الكثير من الدول الغربية ؛ بل إن دولاً لها ثقلها طبَّعت مع الفاشية مثل إيطاليا ومع مد شعبوي قومجي مثل بولونيا وهنغاريا وغيرها وصار يحكمها قادة لا يجدون حرجاً في التفَوُّه بمواقف مضادة للهجرة والأجانب والإسلام والسود واليهود وغيرهم .


حين تستحيل الهجرة ، وهي أساس التجربة الإنسانية منذ آلاف السنين ، يطال الموت أرواحاً بريئة في عمق البحر ، وينمو غول العنصرية والكراهية ، وينتحر الفلاسفة كما وقع لوالتر بنيامين في السادس والعشرين من سبتمبر (أيلول) 1940 بقرية بورت - بو الواقعة على جبال البيريني .


والمناسبة الأخرى هي صدور السلسلة التلفزيونية «ترانس أتلانتيك» يوم 7 أبريل (نيسان) 2023 على منصة «نيتفليكس» وهي عبارة عن سبع حلقات تؤرخ لعمل «لجنة الإغاثة المستعجلة» والتي أسسها صحافي أميركي يسمى فاريان فراي في مارسيليا سنة 1939 لمساعدة الهاربين من بطش النازية ، خصوصاً شخصيات فنية وفكرية وسياسية ، على الهجرة إلى أميركا عبر طرق متعددة .


بفضل عمل هذه اللجنة تم «تهريب» مفكرين ومبدعين أمثال ماكس إرنيست وأندري بروتون ومارك شاغال وهانا أرندت ومارسيل دوشان وكلود ليفي شتراوس ووالتر ميهرينغ وغيرهم بالعشرات ، ولكن الحظ لم يحالف والتر بنيامين ، الذي تم التلكؤ في السماح له بالمرور عبر الحدود الإسبانية ولم يقدر على الصبر حتى يتم فتح الحدود مجدداً في وجهه ومرافقيه في اليوم الموالي ، فابتلع كميات كبيرة من المورفين ولفظ أنفاسه الأخيرة ، ولم يتم بعد ذلك العثور على حقيبته ، التي كانت ربما تحمل متناً أو أكثر لكتاب أو كتب كان يريد نشرها في أميركا .


والتر بنيامين هو من ألمع فلاسفة ومفكري القرن العشرين ، تتميز كتاباته بعمق معرفي كبير وحس إنساني رقيق ، وكان له تأثير مهم ، خصوصاً على رواد مدرسة فرانكفورت لعلم الاجتماع والفلسفة ، ثيودور أدورنو وماكس هوركهايمر وهربرت ماركوز وغيرهم . 


إن فكر بنيامين السياسي والفلسفي لا يمكن فهمه إلا في إطار المخاض الفكري والفلسفي والسياسي الذي كان يعيشه المجتمع الألماني في بداية القرن العشرين وكذا خلال فترة جمهورية الفايمار (1918 - 1933) قبل صعود النازية وحكم الرايخ الثالث (1933 - 1945) .


في السلسلة التلفزيونية ، حين كان والتر بنيامين (لعب دورَه الممثل موريتز بلايبترو) يتباطأ في صعود جبال البيريني ونبهته ليزا فيتكو (مثَّلت دورها دليلة بياسكو) إلى ضرورة المضي قُدُماً ، رَدَّ عليها قائلاً «التاريخ هو الريح التي تدفعنا إلى الأمام مُحوِّلة كل ما تجده في طريقها إلى أنقاض» ، الإحالة هنا إلى الأنقاض التي تخَلِّفُها الآلة التدميرية المسماة آنذاك «النازية» ، ولكن كذلك إلى وجهة نظره للتاريخ كتجربة لما هو حاضر وآنٍ ومعاناة ، ونقيض هذا التصور هو التاريخانية التي تنظر إلى التاريخ وكأنه توالٍ متجانس ومنمَّق للأحداث والفترات .


لهذا ؛ فالتاريخ هو تلك الأنقاض المتناثرة من أصلٍ لم يَبْق بعد موجوداً، ودور المؤرخ ، حسب بنيامين ، هو محاولة جمع هذه الأنقاض وتحصينها ، خصوصاً في زمن الخطر (مارغريت كوهن «دليل كمبردج لفهم والتر بنيامين») .


إن الخطر هو صعود الفاشية وأبعادها الإبادية ، ومن هنا يمكن الاستخلاص أن دور السياسي والمثقف والمفكر والفنان هو البحث عن هذه الأنقاض للَمِّها وتحصين المجتمع والذات ضد الخطر ، وهذه هي الأطروحة الأساسية في فلسفة بنيامين الثقافية والسياسية .


من هنا يتِمُّ فهم لماذا قال : إن الترجمة يجب أن تكون شفافة وحرفية لكي لا ترخي بظلالها على الأصل ؛ لأن الأساس هو الحنين لتلك اللغة الصافية التي تفرعت إلى أنقاض لغوية ، أي إلى لغات متعددة ، ونفهم أيضاً لماذا قال : إن إعادة إنتاج الفن بطريقة ميكانيكية في السينما والإشهار يُقوِّض بعداً أساسياً في الفن يسميه «الهالة» ، أي ذلك الشعور بتفَرُّد وعمق العمل الفني كوحدة غير قابلة للنسخ وإعادة الإنتاج ، وكأن لوحة فنية هي أصل خالص تسقط «هالتها» حال تحويلها إلى بضاعة تتم إعادة نسخها وإنتاجها .


هذا نقد عميق للرأسمالية وتَشْييئها للفن الذي قامت به وسائل التواصل الجماهيرية ، ولكن المقال الذي أسس لهذه النظرية «الأعمال الفنية في عصر إعادة الإنتاج الميكانيكية» كان قد أصدره بنيامين عام 1935 ، أي في عِزِّ صعود أدولف هتلر وانتصار النازية. وفيه نقد مباشر للفاشية على أنها نوع من إضفاء البعد الاستيتيقي (الجمالي) على السياسة (التنظيم المحكم للتظاهرات والاستعراضات المنمَّقة والألعاب الأولمبية ببرلين في 1936) ، بيد أن ما يعنيه بنيامين أصلاً هو أن يتم إعطاء الجماهير الحق في التعبير عن نفسها من دون تغيير بنية المِلكية والتي هي أساس مطالب «البروليتاريا» (مارتين جاي «الآيديولوحا الاستيتيقية : أو ماذا يعني أن تضفي طابعاً استيتيقياً على السياسة» ، مجلة «النقد الثقافي» ، جامعة مينيسوتا، 1992) .


ما يهم في فكر بنيامين هو هذا الربط بين الفن والثقافة والسياسة والفكر الديني في إطار محاولة قراءة التاريخ من وجهة نظر اللحظة الغابرة والصافية والأنقاض المتناثرة ، ومهمة المفكر هو محاولة لَمْلَمَة الأطراف المتناثرة لمقاربة الأصل واللحظة المتوارية إلى الوراء. في زمن الخطر ، يصبح هذا الأمر قضية حياة أو موت. وكان بنيامين يحاول العبور إلى ما وراء الأطلسي للاستمرار في هذا البحث الوجودي/الفلسفي ، ولكن الشمعة انطفأت ذات ليلة من ليالي سبتمبر 1940 .


إن هجرة الفلسفة المستحيلة في عهد الفاشية قبل أكثر من ثمانين سنة خلت، تعطينا درساً حول عودة اقتران الفاشية الجديدة بالهجرة في القرن الواحد والعشرين ، وكأن التاريخ يعيد نفسه بطريقة حلزونية. التطبيع مع الفاشية الجديدة بُنِي على ميثولوجيا جديدة حول «الوطن» ونقاوته البيضاء التي يلوثها وجود المهاجر الأسود أو البني أو غيره ، فاشية القرن العشرين تمنع الهجرة وتُحصِّن المخارج لتدمير مفكرين محسوبين على اليهودية أو الشيوعية أو هما معاً ، وفاشية القرن الواحد والعشرين تُحَصِّن المداخل لمنع اللاجئين والهاربين من الدخول وتقويض نقاوة «الوطن» ، بين الهجرة والفاشية يقْبَعُ الموت ، موت القوارب وقاع البحر ، وكذا موت الفلسفة في أعالي جبال البيريني .
 
 
 

سارة البوفي كاتبة وصحفية بالمؤسسة الإعلامية الرسالة… إعرف المزيد حول هذا الكاتب



الجمعة 14 أبريل 2023
في نفس الركن