صحتنا

العلاج بالفن: رحلة للتعافي واستكشاف الذات


العلاج بالفن هو مجال يجمع بين قوة الإبداع وجمال الفن وتقنيات علم النفس، ليصبح وسيلة تعبيرية غير لفظية تسهم في تحسين الصحة النفسية للأفراد من جميع الأعمار. قد يُعتقد أحيانًا أن الفن رفاهية، لكن الحقيقة هي أن غيابه عن المنازل والمؤسسات التعليمية يُعَد خسارة كبيرة. الأبحاث أظهرت أن الأنشطة الإبداعية تلعب دورًا كبيرًا في تطوير العقل والفكر، خاصة لدى الأطفال، مما ينعكس إيجابًا على سلوكهم وعلاقاتهم في المستقبل، وفقًا لما توضحه نيفين زكي، اختصاصية العلاج بالفن والصحة النفسية الشمولية.



مفهوم العلاج بالفن
العلاج بالفن ليس مجرد وسيلة للتعبير عن المشاعر التي قد يصعب وصفها بالكلمات، بل هو جسر يساعد الأفراد على الوصول إلى أعماق ذاتهم وفهمها بشكل أعمق. يفتح هذا النوع من العلاج أبوابًا جديدة للفهم الذاتي والتعبير العاطفي، مما يعزز رفاهية الأفراد ويسهم في تحسين جودة حياتهم. يعد العلاج بالفن أحد الأساليب العلاجية التي تستفيد من العملية الإبداعية كجزء من العلاج النفسي، حيث يساهم في تعزيز الصحة النفسية والجسدية عبر استخراج المشاعر والأفكار المكبوتة وجلبها إلى السطح. نيفين زكي توضح أن "العلاج بالفن لا يتطلب مهارات فنية مسبقة، فالهدف ليس إنتاج عمل فني متكامل بل التركيز على العملية الإبداعية بحد ذاتها وتوفير وسيلة للتعبير عن العواطف الصعبة".

أهداف العلاج بالفن
تتمثل أهداف العلاج بالفن في استكشاف المشاعر والأفكار المخفية، مما يمنح الأفراد فرصة لفهم الجوانب غير المدركة في أنفسهم والتي قد تؤثر في سلوكهم ومشاعرهم. كما يعزز الوعي الذاتي من خلال العملية الإبداعية، مما يساعد الأفراد على فهم أعمق لأفكارهم ومشاعرهم. بالإضافة إلى ذلك، يوفر الفن وسيلة للتعبير عن المشاعر المعقدة، مما يخفف الضغط النفسي ويساعد في مواجهة الصراعات الداخلية بطرق بناءة. العلاج بالفن يسهم أيضًا في تحسين المهارات الاجتماعية والعاطفية، حيث يزيد من قدرة الأفراد على التفاعل الإيجابي والفعّال مع الآخرين، بالإضافة إلى تحسين الوظائف العقلية مثل الذاكرة والتركيز، مما يسهم في الحفاظ على نشاط الدماغ وتأخير الإصابة بالأمراض المرتبطة بالعمر مثل الزهايمر.

خلفية تاريخية للعلاج بالفن
للعلاج بالفن جذور تمتد عبر القرون، حيث استخدم الفن كوسيلة للتعبير عن النفس ومعالجة التحديات النفسية. لكن هذا المجال تطور كاختصاص احترافي في النصف الأول من القرن العشرين. ففي الأربعينيات، بدأت مارجريت ناومبرج، التي تُعتبر رائدة في هذا المجال، بنشر دراسات حالة وابتكار مصطلح "العلاج الديناميكي بالفن". وفي الثلاثينيات، لاحظ الفنان البريطاني أدريان هيل تأثير الرسم والتلوين في تحسين حالة الجنود الجرحى خلال فترة تعافيهم في المستشفيات العسكرية، مما شكل نقطة انطلاق لفهم أعمق لكيفية استخدام الفن كأداة علاجية. كما كانت لإديث كرامر إسهامات حيوية في تطور هذا المجال، إذ أكدت أن العملية الإبداعية بحد ذاتها تحمل قيمة علاجية، وليس المنتج النهائي فقط. من خلال عملها، أسست مفهوم "الفن كعلاج"، مشيرة إلى أن الفن يمكن أن يكون وسيلة للتعبير عن الصراعات النفسية الداخلية ومعالجتها بفعالية.

الفئات العمرية المستفيدة من العلاج بالفن
العلاج بالفن يمكن أن يكون مفيدًا للأشخاص من جميع الأعمار، بدءًا من الأطفال وصولاً إلى كبار السن. الأطفال يستخدمون الفن للتعبير عن مشاعرهم والتغلب على التحديات النفسية التي قد يعجزون عن التعبير عنها بالكلمات. بالنسبة للمراهقين، يساعد العلاج بالفن في التعامل مع القلق والتوتر المرتبطين بمرحلة البلوغ، في حين يمكن للبالغين وكبار السن استخدامه كوسيلة لمعالجة الصدمات النفسية والتعبير عن التجارب الحياتية المعقدة. تقول نيفين زكي: "العلاج بالفن وسيلة شاملة يمكن أن تساعد الأشخاص في مختلف مراحل الحياة على التعامل مع التحديات النفسية والعاطفية".

تأثير العلاج بالفن على الصحة النفسية
أظهرت دراسات حديثة أن العلاج بالفن يلعب دورًا فاعلًا في تعزيز الصحة النفسية ومعالجة العديد من الأمراض العقلية والجسدية. في دراسة نُشرت عام 2020، وُجد أن 45 دقيقة من النشاط الفني يمكن أن تقلل بشكل كبير من مستويات التوتر لدى المشاركين بغض النظر عن مهاراتهم الفنية. كما أظهرت دراسة أخرى عام 2021 أن الأشخاص الذين شاركوا في جلسات العلاج بالفن أظهروا تحسنًا ملحوظًا في تقليل مستويات الاكتئاب والقلق. توضح نيفين: "الفن يمكن أن يقلل من مستويات التوتر والقلق والاكتئاب ويعزز من إفراز هرمونات السعادة مثل السيروتونين والدوبامين، مما يساعد في تحسين المزاج". العلاج بالفن يسهم أيضًا في تحسين النوم والنشاط اليومي، ويمكن أن يكون فاعلًا في معالجة اضطرابات ما بعد الصدمة، حيث يساعد الأفراد في التعبير عن تجاربهم الصادمة بطرق غير لفظية وآمنة، مما يمكنهم من التعامل معها بطرق إبداعية. كما أظهرت دراسات عدة أن الجنود الذين شاركوا في جلسات العلاج بالفن أبدوا تحسنًا في أعراض اضطرابات ما بعد الصدمة.

تأثير العلاج بالفن على الصحة الجسدية
العلاج بالفن يمكن أن يساعد في التخفيف من الأعراض الجسدية المرتبطة بالإعاقات والأمراض المزمنة. على سبيل المثال، يمكن للعلاج بالموسيقى أن يحسن التوازن الحركي للأشخاص الذين يعانون من تحديات في الحركة، وذلك من خلال تحفيز مناطق محددة في الدماغ لتنظيم الحركة. أما الأنشطة الإبداعية مثل الرسم والنحت، فتسهم في تقوية العضلات الدقيقة وتطوير مهارات استخدام الأدوات، مما يعزز القدرة على القيام بالأنشطة اليومية بكفاءة. كذلك، يُظهر الأطفال ذوو الاحتياجات الخاصة الذين يشاركون في جلسات العلاج بالفن تحسنًا في قدراتهم الحركية والاجتماعية، حيث يسهم العلاج بالفن في تعزيز مهارات التواصل والاستقلالية.

تطبيقات العلاج بالفن
الرسم والتلوين من بين الأنشطة الأساسية في العلاج بالفن، حيث يتم استخدامهما كوسائل للتعبير عن المشاعر والمساعدة في الاسترخاء والتخفيف من التوتر. كما يمكن أن تشمل الجلسات أنشطة مثل النحت، الكتابة الإبداعية، أو حتى الرقص، وذلك بهدف تعزيز الاستكشاف الذاتي وتنمية القدرات العقلية والجسدية للأفراد.

العلاج بالفن ليس فقط وسيلة لتعزيز الرفاهية الشخصية، ولكنه أداة قوية لمعالجة الصدمات والتوترات النفسية وتحسين جودة الحياة للأشخاص من مختلف الفئات العمرية والخلفيات.

سارة البوفي كاتبة وصحفية بالمؤسسة الإعلامية الرسالة… إعرف المزيد حول هذا الكاتب



الأربعاء 16 أكتوبر 2024
في نفس الركن