كتاب الرأي

الحصيد: يوسف زيدان وثورةٌ لم تُؤنَّث


لطالما أثار عنوان رواية يوسف زيدان "الحصيد" فضولي، وذلك منذ اللحظات الأولى للإعلان عن صدورها. ففي اختيار هذا العنوان بالذات ما يُومِئ بقراءةٍ وجودية تتجاوز سطح الحكاية الظاهر. فـ"الحصيد"، بخلاف "الحصاد"، لا يوحي بالثمار أو الوفرة أو الخير العميم، بل يُحيل مباشرةً إلى ما يتبقّى بعد جفاف السنابل ويباسها: الهشيم، والبقايا، والرماد.



بقلم: الدكتور خالد فتحي

أهو اعترافٌ مُبكّرٌ ومُضمَرٌ من زيدان، يُعلنه منذ العتبة الأولى للنص، بأن روايته هذه ليست إلا سرديةً قلقةً عن مرارة الخيبة، وعن آمالٍ ذَوَت قبل أوانها، وعن ربيعٍ لم يُزهر، وثورةٍ لم تُكتَب لها صفة التأنيث؟

منذ الصفحات الأولى، يغوص بنا زيدان مباشرةً في قلب هذا "الحصيد"؛ مقدّمًا اللقاء الأول بين "بهير" و"يارا" في الجمعة الأولى من عام 2010. اختيارٌ لا يخلو من دلالة، فهذا التاريخ يُحيل بوضوح إلى الزمن الذي سبق اندلاع ثورة يناير المصرية بعامٍ واحد فقط. كأنما يهمس زيدان في أذن قارئه: تمعّن جيدًا... هذه ليست مجرد حكاية حب عابرة، بل هي تأريخٌ دقيق للهشاشة التي مهدت للانفجار.

وبتحديد يوم الجمعة، يُلمِّح زيدان إلى رمزية زمنية ودينية ذات ثقل، كثيرًا ما تتجلى في المنعطفات التاريخية الكبرى والثورات. فكأن كل جمعةٍ في الرواية هي صدى لتلك الجُمَع التي احتضنت الحشود الهادرة، التي كانت تهتف وتمضي، حتى وإن لم تكن تعرف وجهتها النهائية. هكذا يرسم زيدان ملامح رؤيته – أو ربما شكوكه العميقة – تجاه الفعل الثوري، الذي يبدو في مرآته انفجارًا عاطفيًا قد يكون بهيًّا، لكنه يفتقر إلى الوجهة والبوصلة.

الثورة كظلٍّ... لا كبطلة
واللافت للنظر أن زيدان يتجنب ذكر الثورة المصرية صراحةً، على الرغم من أن أحداث الرواية تدور في أتون زمنها الملتهب. إنها تحضر، ولكن كـ"ظل ثقيل" يلقي بوطأته على المصائر، لا كحدثٍ محوريٍّ أو بطلٍ أوحد. لقد اختار زيدان بوعيٍ فنيّ أن يُنحّيَها عن مركز الصدارة السردية، لكنه في المقابل، وبحنكةٍ لافتة في بناء الحبكة، منحها دورًا أشد عمقًا من مجرد البطولة الظاهرية؛ لقد جعلها الروح الخفية التي تؤطر فضاء الرواية، والشبح الذي تتشابك خيوطه مع مصائر شخوصها.

بل الأدهى من ذلك، أنه جعل من حادث تفجير كنيسة القديسين بالإسكندرية، الذي وقع قبيل الثورة بشهر ، نقطة التحول المفصلية في الرواية. فالانفجار هنا يتجاوز كونه مجازًا سياسيًا ليصبح شرارة وجودية عنيفة، مزّقت النسيج الاجتماعي والديني الهشّ أصلًا، وأضرمت في دواخل الشخصيات نيران اضطراباتٍ وجودية عميقة، أعجز من أن تطفئها هتافات الشوارع الحماسية. وكأن الثورة، في منظور الرواية، لم تكن البداية الحقيقية، بل كانت النتيجة الحتمية لمشهدٍ بلغ درجةً قصوى من التأزم، تتويجًا لـ"حصادٍ" مريرٍ تراكمت مرارته عبر السنين.

يوسف زيدان: لا مادحًا للثورة ولا هاجيًا لها
في "الحصيد"، يقدّم زيدان مقاربةً مغايرة للثورة: فهو لا يُدينها ولا يمجدها، بل ينفذ إلى دواخل الإنسان ليفككها من هناك. يراها أقرب إلى لحظةٍ ميتافيزيقية كاشفة منها إلى مشروعٍ سياسيٍ مدروس؛ لحظةٌ تفتقر إلى خارطة طريق واضحة المعالم، لكنها بالمقابل فضحت حيرةً كبرى وكشفت عن هشاشة البنى الداخلية للإنسان والمجتمع. الثورة هنا ليست طرفًا منتصرًا أو مهزومًا، بل هي مسرحٌ حيّ تتجلى عليه دراما التمزق الإنساني بين عنفوان التوق ومرارة الخذلان.

وهكذا، يعيد زيدان صياغة دور الكاتب: هو  ليس مؤرخًا يسجل الوقائع، ولا مُهللًا يطلق الأهازيج، بل هو أشبه بحفّارٍ دؤوبٍ في طبقات الوعي الإنساني، يعرض أمامنا مرآةً تكشف عيوبنا المستترة، دون أن يُملي علينا رؤيته الخاصة أو يصدر أحكامه.

لكن مرآة زيدان هذه ليست مجرد سطحٍ عاكس؛ إنها تتجسد في أسلوبٍ لغويٍ جزلٍ متين، طبع به مجمل أعماله الروائية، وفي لغةٍ فلسفيةٍ ذاتِ نَفَسٍ صوفيٍّ بهيّ، اعتاد أن ينسج من خيوطها سردًا تأمليًا متفردًا. وهو في "الحصيد" تحديدًا، لم يكن معنيًا بتسارع إيقاع الأحداث بقدر ما أولى اهتمامه لغور الشخصيات وعمق تيهها الوجودي.
يوظف زيدان في هذا النص لغةً تنبض بالحكمة أكثر مما تتكئ على الدراما، وتغلب عليها النبرة التأملية العميقة التي تستفز فكر القارئ وتدعوه إلى التساؤل لا إلى مجرد التلقي السلبي. إنه لا يكتب في "الحصيد" لمجرد الحكي، بل ليكشف ويُفكك، ثم يُعيد بناء المعنى على أنقاض اليقينيات المنهارة. سردُه المتأمل يستطيع أن يراوغ خطيّة الزمن، وأن ينسج تقاطعاتٍ مدهشة بين الأسطورة والتاريخ واللحظة الراهنة، كل ذلك بلغةٍ تجمع بين الجلال والشفافية والبهاء.
إنها إذن روايةٌ ونصٌّ فلسفيٌّ عميق، يتخذ من القالب الحكائي ستارًا له، وقد استدعى زيدان لهذا المزيج ثلاث شخصياتٍ محورية، لخّص من خلال رمزيتها المكثفة مآلات الوضع في مرحلة ما بعد الثورة.

بهير: الحالم الصامت
في هذا الإطار، يُقدّم زيدان شخصية "بهير" كرمزٍ لأحد وجوه جيل الثورة المتردد. فتى بهائي، منزوٍ، يعيش على تخوم المجتمع، يعاني من وطأة التهميش الديني والثقافي، ويبدو عاجزًا عن الانخراط الفعلي في زخم الثورة، لا عن ضعفٍ بالضرورة، بل ربما لشعورٍ داخلي عميق بأنه غير معنيٍّ بها بشكلٍ شخصي. يلوذ بحبٍّ يبدو له أكثر واقعية من الشعارات الرنّانة، لكنه حبٌّ يظل معلقًا ومستحيل الاكتمال. بهير هو الضمير الصامت لجيلٍ ربما لم يكن مهيأً تمامًا لدفع كلفة التغيير الجذري، فآثر الانسحاب إلى الذات، إلى حلم الحب المستحيل، وإلى ما يشبه استسلامًا هادئًا للاجدوى.

يارا: الثورة التي لم تُؤنَّث
أما "يارا"، الفتاة الدرزية الآسرة بجمالها وحضورها، فهي تتجاوز كونها مجرد شخصية نسائية في الرواية. إنها تجسيدٌ حيٌّ لمأزق الأنثى الشرقية التي تتوق للتحرر وتخطو نحوه، لكنها تصطدم بجدران الواقع وتفشل في تحقيق خلاصٍ ناجز. تحب، تتمرد، تهرب... لكن أقدارها تعيدها في النهاية إلى سجنها الأول. لقد تحررت فكريًا ووجدانيًا، بيد أن هذه الحرية لم تترجم إلى واقعٍ ملموس.

وهنا، تُصبح "يارا" رمزًا بليغًا للثورة ذاتها؛ تلك التي، من منظور زيدان، أخفقت لأنها لم تُؤنَّث بالمعنى العميق للكلمة. ونستحضر هنا عبارة يوسف زيدان المفتاحية التي كررها مرارًا: "كل فعلٍ لا يُؤنث، لا يُعوّل عليه."
"الأنوثة" التي يعبّر عنها زيدان هنا ليست مجرد تحديدٍ جندري، بل هي استعارةٌ لروحٍ قادرة على: الخلق لا الهدم، الولادة لا التدمير، الحكمة لا الاندفاع العاطفي، الاحتواء لا الإقصاء، الاستدامة والبناء لا الانفجار المؤقت.
الثورة المصرية، في قراءة زيدان، وعلى الرغم من المشاركة النسائية الواسعة فيها، افتقرت، في جوهرها، إلى هذه الروح "المؤنثة" القادرة على الرعاية والاحتضان وتحويل الهتاف إلى مشروع. لذا، لم تُثمر كما كان مأمولًا. لم تتحول إلى بناءٍ مستدام. كانت فاتنة وجذابة كـ"يارا"، لكنها خسرت، مثلها، رهان الحب والتغيير معًا.

أنو: الثائر بلا رؤيا
وعلى الطرف المقابل، يقف "أنو"، ليمثل النقيض الصارخ. شخصية مضطربة، مهووسة بالأساطير القديمة، تسكنها مرارات الغضب والنقمة، وتنزع نحو التطرف. تدفعه رغبةٌ جامحة لرفض كل شيء: الدين، السلطة، الثورة ذاتها، الماضي والحاضر... يريد هدم المعبد بالكامل، دون أن يمتلك أدنى رؤية لإعادة البناء أو أفقٍ للمستقبل.
يجسّد "أنو"، في بناء زيدان الروائي، ذلك الغضب الأعمى الذي استبدّ ببعض وجوه الفعل الثوري، ذلك الرفض الصارخ لكل ما هو قائم دون طرح أي بديلٍ بنّاء. إنه يمثل صدى لتلك التيارات الراديكالية التي تجنح نحو العدمية والنقمة، وتفتقر لأي بوصلةٍ أو أفق. بهذا الزخم السلبي العارم، لا يعود "أنو" مجرد شخصية روائية، بل يصبح تعبيرًا عن كل وعيٍ مأزومٍ يرى في الهدم المطلق خلاصًا واهمًا. هو الثائر الذي يتوق لإعادة الكون إلى نقطة الصفر، لكنه يجهل تمامًا ما سيفعله به بعد ذلك. لذا، تتشظى روحه وتتمزق بين ضبابية اللايقين وفوضى اللاشكل.

 وفي هذا السياق ،يُسخّر يوسف زيدان أبطاله الثلاثة في رسم لوحة مكثفة للاحتقان الذي كان يخيّم على المشهد المصري قبيل الثورة، مستعيدًا عبرهم أجواء عامين من التوترات الصامتة. ينحت زيدان شخصياته — بهير ويارا وآنو — بمهارة، ليجسد من خلالها هشاشة العلاقات الإنسانية، وحالة التهميش، والتوترات الدينية، والشعور العميق باللاجدوى، التي كانت تتهيأ للانفجار.

ينتمي الأبطال إلى فئات شابة تائهة، تبحث عن معنى وهوية في مجتمع تتهاوى فيه الثوابت الدينية والاجتماعية والسياسية. ويأتي حادث تفجير الكنيسة كلحظة كاشفة لانهيار التعايش الاجتماعي، لحظة تؤذن بانطلاق سلسلة من التداعيات النفسية والوجودية، تهز الشخصيات من الداخل.

الثورة، التي اندلعت بعد 24 يومًا من التفجير، لا تظهر هنا كانتفاضة خلاقة بل كمشهد إضافي في مسلسل الانهيار،  إنها بهذا المعنى  لا تبعث الأمة بل تفضح تصدّعها. تتوتر الشخصيات : بهير يغرق في تردده، يارا يزداد غموضها، وآنو يتوغل أكثر في عدميته.

يقدّم زيدان الثورة كتجربة نفسية لا كحدث سياسي،  تجربة تطلق العنان للفوضى والارتباك والتشظي الداخلي. وفي نهاية الرواية، لا يتحقق خلاص ولا يتحصل حصاد، بل فقط حصيدٌ مرّ.

يفشل بهير، الذي يمثل الفئات المترددة والحائرة، بهويته البهائية الهامشية ، وعجزه عن الفعل، في احتواء يارا، رمز الثورة بكل ما تحمله من إغواء وإمكانية وغموض ونقص. أما آنو، فيمثّل التيارات المتطرفة، دينية كانت أم يسارية، تلك التي تبحث عن الوجود من خلال العنف.

هكذا، تُجسّد هذه الشخصيات ما بعد الثورة: بهير علامة على الانكسار، يارا مرآة لأمل أُجهض، وآنو انعكاس للعدمية العنيفة. ومن خلالهم، يجدد زيدان موقفه النقدي من ثورة لم تنضج، فجاءت حاملةً مزيدًا من الانقسام والفوضى والصراع. هذا ما يبقى في النفوس بعد أن خمدت الشعارات، وهذا ما أراد ان يقوله يوسف زيدان الثورة كـ"حصيد" لا كحصاد
ما يفعله يوسف زيدان ببراعة في "الحصيد"، هو أنه لا يكتفي بتصوير اللحظة، بل يعيد عقارب الساعة إلى الوراء، ليس لإصدار الأحكام على الثورة، وإنما ليطرح عليها أسئلةً وجودية عميقة: هل كان المصريون مستعدين حقًا لهذا التحول؟ هل امتلكوا أدوات البناء ورؤية المستقبل؟ أم أنهم فقط انفجروا غضبًا وأملًا، دون أن يعرفوا كيف يلمّون الشظايا المتناثرة؟

وغني عن البيان أن هذه الأسئلة الوجودية الحارقة لا تقتصر على السياق المصري، بل يتردد صداها بقوة في مختلف أرجاء الوطن العربي، حيث كشفت التحولات التي أعقبت ما سُمي بـ"الربيع العربي" عن غياب الأفق الواضح وعن صعوبة الانتقال من لحظة الهدم إلى مرحلة بناءٍ مُثمر.

رواية يوسف زيدان، في جوهرها، ليست تأريخًا للثورة بحد ذاتها، بل هي تأملٌ مريرٌ في "حصيدها": في الرماد النفسي الذي خلفته وراءها، في التمزقات التي اعترت النسيج المجتمعي، وفي الخذلان العميق الذي وأد الكثير من الأحلام. إنها روايةٌ عن الإنسان العادي الذي وجد نفسه في قلب العاصفة وخرج منها منكسرًا، حائرًا، منهك الروح، لا عن البطل الأسطوري الذي يُفترض أنه صنعها.

في النهاية، لا نملك إلا أن نتساءل مع زيدان، وبصوتٍ يعكس قلق الرواية نفسها: هل كانت الثورة فعلًا واعيًا ومكتملًا؟ أم أنها، كما يوحي عنوان روايته البليغ، كانت مجرد... حصيد؟


سارة البوفي كاتبة وصحفية بالمؤسسة الإعلامية الرسالة… إعرف المزيد حول هذا الكاتب



الاثنين 28 أبريل 2025
في نفس الركن