فن وفكر

الأجيال الأدبية حوار أم صراع على المكانة؟


مما لا شك فيه أن (الجيل الأدبي) مسمى نقديًا ، لا يهتم به الكثير من الكتاب، لكنه أمر واقع يفرض نفسه من دون انقطاع حين نشهد ظهور أسماء أدبية جديدة، وكتابات مغايرة ، وحين تخفت أسماء كان لها حضورها ؛ لهذا يحدث أن نجد كاتبًا شابًا يتبني القطيعة مع من سبقوه ، إيمانًا منه بأن ما ينشغل به على درجة من الاختلاف تبيح له إغلاق الباب بوجه أي سابق أدبي ، ويحدث أن يتشبث كاتب مُكرس بمكانته ، ويبني بينه وبين الجيل الجديد سورًا عاليًا يؤدي إلى القطيعة ، حالة تدفعنا إلى التساؤل : هل تقوم علاقة الأجيال الأدبية على التقارب، أم على التنافر؟



جلال برجس

مقالتي الأسبوعية في صحيفة أثير

وبعيدًا عن التعميم ، فإن التعاطي مع أمر مثل هذا من الزاوية التي يؤمن بها الكاتب الحقيقي يقودنا بالطبع إلى أن العلاقة بين أي جيلين مبنية على الحوار ، والمراكمة المعرفية ، والأسلوبية ، واللغوية ، وأما ذهابنا إلى واقعية هذه الحالة للأسف الشديد ؛ فإنه يشير إلى أن صراعًا قائمًا بينهما ، ولم يتوقف ، إنها الخشية على المكانة ، التي تأخذ عند البعض في سياق تحولاتها شكل الصراع الإقصائي ؛ فهذا يسعى إلى تهشيم ذاك ، بل اغتيال منجزه ، وذاك ينشغل بتسطيح ما يستجد من نصوص أدبية حديثة ، ويعمل على عرقلة منتِجها ، من دون أن يدركوا أن هناك طرفًا ثالثًا في هذه المعادلة بيده الخيار الأمثل في التعاطي مع النص الأدبي ، ألا وهو القارئ الذي لا ينفصل بالطبع عن حركة الزمن ؛ فهو عنصر قابل للتطور ، وقادر على أن يحدد خياراته ، ويطلق في نهاية الأمر حكمة الشخصي ، انطلاقا من إيماننا بأن القراءة إعادة إنتاج للنص من بعد مختلف .



إن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة في هذه الأيام : هل كل الأسماء الأدبية التي تكبرنا في العمر والتجربة وحققت ظهورها وصلت ما وصلت إليه بمعزل عما يمكن أن أسميه الأدوات المساعدة ، من (بروباغندا) ، وتقاطع مصالح شخصية، وجني المكاسب ، واغتيال المنافسين؟ وهل كل الأسماء الأدبية الحالية تمضي في طريقها بمعزل عما أسلفت؟ هل كل من يرى مكانته في الصف الأول هو حقًا في الصف الأول؟



إنها عقدة الصف الأول ، والسعي إلى الحفاظ على الصدارة ، التي لا أراها إلا في قيمة المُنْجَز الأدبي ، وقدرته طويلة الأمد على مخاطبة العقل البشري ، وعلى ملامسة إنسانيتنا بعيدًا عن الذاتية المفرطة التي لا ترى في تفردها إلا حيزًا لصوتها الخاص فقط ، الذي لن تتحقق قيمته من دون الأصوات الأخرى .



نحن نتاج ما رأيناه في هذه الحياة ، ونتاج رؤية ما قرأنا من اشتغالات أدبية حقيقية تؤمن بالكلمة لا غير ؛ فليس هناك من كاتب جاد بلا قراءة جادة لمن سبقه ، ولمن يجايله ، وليس هناك من كاتب حقيقي يغلق الباب بوجه الجديد ، إلا من أخذهم عجزهم الأدبي إلى التمترس وراء زيف كان فيما مضى يتوارى وراء وهم الحضور الذي يسقط بتقادم الزمن ، بخلاف ديمومة النص الحي على مر العصور.


 لقد كان لهذا الشكل من الممارسات أثرها في المراحل الكلاسيكية، لكنها ما عادت تؤدي في هذه الأيام التي تشهد تطورات على مختلف الصعد، إلا إلى اغتيال صاحبها .



إن النص الأدبي نتاج لخبرة الكاتب الحياتية ، أي أنه مجموع مآلات تأملاته ، وخياراته الثقافية ، والفكرية ، والسياسية ، والاجتماعية ، وإن هذا النص بكل مسبباته خاضع لحركة الزمن فما كان بالأمس ، ليس هو ما في هذه الأيام ، وما في هذه الأيام لم يولد من الفراغ ؛ بل أنه وفي جانب منه ، استمرار للنص السابق، لكنه استمرار مبني على سمة الزمن في مضيِّه إلى الأمام ، وبالتالي تطور عناصره ، بل حتى تبدلاتها .



لا أؤمن بالأبوية ، ومنها الأبوية الأدبية ، لكنني أؤمن بأن الكتابة استمرار للهاجس الآدمي الأول ، والمحاولات الأولى لفهم الكون ، هناك محاولات تستحق الانطلاق منها إلى نيل إجاباتنا على أسئلتنا الوجودية ، ومحاولات نَفسُها قصير ، ولا يظهر منها سوى القشرة ، في زمن نحن بأمس الحاجة فيه إلى اللؤلؤة التي بالطبع مكانها في الأعماق ، أعماق الماء، وأعماق المحارة .

سارة البوفي كاتبة وصحفية بالمؤسسة الإعلامية الرسالة… إعرف المزيد حول هذا الكاتب



الأربعاء 18 يناير 2023
في نفس الركن