كتاب الرأي

اختلاف الأولويات لدى الكبار والصغار


تحولت قضية الجفاف وندرة المياه في العالم إلى أكثر القضايا تداولا في وسائل الإعلام في مختلف أقطار المعمور، وانتقل الاهتمام بها من طرف شعوب كوكب الأرض إلى مقدمة اهتماماتها بالنظر إلى التحديات الكبيرة والخطيرة التي تطرحها هذه القضية، والأخطار التي تهدد بها مستقبل البشرية في العالم .



بقلم: عبد الله البقالي

الإحصائيات المرتبطة بهذه القضية أصبحت مخيفة، وهي تسير من السيء نحو الأسوأ. في حين يبدو أن المجتمع الدولي، بحكوماته وبرلماناته ومنظماته وهيآته لا يعكس هذا الاهتمام، من خلال البحث عن الحلول الحقيقية والجذرية لهذه الإشكالية الخطيرة وما يتفرع عنها، من هدر مائي مفرط في كثير من الدول، بينما تواجه دول أخرى شحا فظيعا في الحصول على المياه، بيد أنه يبدو أن المجتمع الدولي منشغل انشغالا كبيرا وعميقا بقضايا أخرى من قبيل التضخم والحفاظ على ارتفاع أسعار المحروقات والسباق نحو التسلح، وغيرها من الاهتمامات التي تستجيب لحاجيات التحديات الاقتصادية والسياسية التي تفرضها التطورات المتعلقة بالعلاقات الدولية السائدة .


فوفقا للصندوق العالمي للحياة البرية، فإن 3 بالمائة فقط من مياه العالم عذبة، وثلثها مجمدة أو غير متاحة للاستخدام بأي شكلٍ من الأشكال، و هذا ما أدى إلى عدم قدرة أكثر من مليار شخص في العالم على الوصول إلى المياه، بينما يواجه 2,7 مليار شخص آخرين ندرة في المياه لمدة شهر كامل على الأقل في السنة الواحدة .في حين تستمر وتيرة الجفاف في الارتفاع، بحيث زادت حدته خلال السنوات القليلة الماضية بوتيرة غير مسبوقة، وشملت كثيرا من مناطق العالم لم تكن تعرف هذه الظاهرة في السابق. وتشير المعطيات في هذا الصدد إلى أن تكلفة الجفاف في العالم خلال سنة 2022 قدرت ب 38,4 مليار دولار، واعتبرت أعلى تكلفة طيلة 48 سنة الماضية. وتتجسد هذه الأضرار البالغة في تراجع المحاصيل الزراعية، مما تسبب في ارتفاعات مهولة في أسعار الغذاء، وفي تردي جودة العيش، خصوصا ما يترتب عن النقص الكبير في الحصول على الماء، و في تمويل برامج محاولات الوصول إليه، مما كانت له و لا تزال، انعكاسات على الأوضاع الصحية، وفي الهروب من مناطق الجفاف والاقتراب أكثر من المناطق الأقل جفافا، وفي الهجرة من القرى نحو هوامش المدن مما يزيد من أعباء الحواضر و يفاقم أوضاع المهاجرين .


الأمين العام للأمم المتحدة السيد "أنطونيو غوتريس"، قدم حقائق صادمة و مخيفة في الخطاب الذي ألقاه في افتتاح مؤتمر الأمم المتحدة للمياه، الذي احتضنه مقر الأمم المتحدة بنيويورك. حيث كشف في هذا الصدد على "أن شخصا واحدا من كل أربعة أشخاص في العالم يعيش بدون خدمات مياه التي تتم إدارتها بأمان أو مياه شرب نظيفة. وأن 1,7 مليار شخص في العالم يفتقدون لخدمات الصرف الصحي الأساسية، وأن نصف مليار شخص في العالم يقضون حاجاتهم في العراء". كما أكد تقرير آخر صادر عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) نشر مؤخرا نفس الحقائق، حيث أكد وجود قرابة ملياري شخص في العالم (أكثر من ربع سكان العالم ) محرومين من مياه شرب آمنة، و أن 3,6 مليار شخص (حوالي 46 بالمائة من ساكنة العالم) غير قادرين على الانتفاع من خدمات الصرف الصحي التي تدار بطريقة سليمة . والأدهى من ذلك فإن التقرير المذكور توقع تضاعف عدد الأشخاص في المناطق الحضرية من شح كبير في المياه. و هي المناطق المصنفة أكثر أمنا في المجال المائي من المناطق الريفية .


قد تكون أسباب تدهور مؤشرات الأمن المائي كثيرة و متعددة، منها التغيرات المناخية التي أفضت إلى استمرار مؤشر ارتفاع الحرارة في الصعود، وصلت حد التسبب في موجات جفاف مخيفة. و قد تكون الاستعمالات البشرية من ضمن الأسباب أيضا، حيث أفضى التهور و عدم تقدير الأهمية البالغة للماء إلى هدر كميات كبيرة من المياه، كما انتهت إلى التسبب في إجهاد مائي كبير خصوصا بالنسبة الى الفرشة المائية والجوفية بصفة عامة. لكنها تبقى في نهاية المطاف أسبابا طبيعية بالنظر إلى التطور الصناعي الهائل الذي عرفته الحياة البشرية، وإلى الارتفاع المتواصل في عدد سكان العالم، مما يرفع من نسبة الاستهلاك. لكن ما هو غير طبيعي و غير مقبول أن لا ينجح المجتمع الدولي في إنجاز برامج فعالة للتصدي لهذا الخطر المحدق بمستقبل البشرية جمعاء. وتجنبه إلى اليوم اعتبار هذه القضية تهم البشرية جمعاء، وأنها قضية إنسانية بدرجة أولى تستوجب معالجة مستعجلة ودائمة. لأن تطور الحياة البشرية يخلف أضرارا بليغة في شتى مجالات الحياة، وأن الجهات المستفيدة من هذا التطور، والتي تراكم أرباحا مالية طائلة وخيالية يجب أن تتحمل مسؤولياتها في مواجهة التداعيات السلبية التي تتسبب فيها أنشطتها الصناعية والاقتصادية، إذ لا يعقل أن يدفع الصغار تكلفة ما يتسبب فيه الكبار .
ويمكن القول على سبيل الذكر لا الحصر إن التكلفة المالية التي ترتبت إلى الآن عن الحرب الروسية الأوكرانية مثلا كانت كفيلة لتمويل برامج كبرى للتخفيف من تداعيات هذه الظاهرة. لكن الحرب فرضتها الحسابات الجيواستراتيجية لكبار العالم، فلذلك حظيت بالأولوية وسخرت لها المبالغ المالية لتدمير العالم، بيد أن قضية الماء ليست قضية استراتيجية، و لا تدخل في مجالات و لا مساحات صراع النقود على مناطق العالم. وهكذا فإن فلسفة النظام العالمي السائد تعطي الأسبقية إلى ما يحقق الدمار من حروب وفتن وقتل و إبادة، في حين تتوارى إلى الخلف قضايا الجفاف والفقر والمجاعة والهشاشة الاجتماعية والأمن الغذائي و غيرها كثير في اهتمامات و حسابات الكبار .

 

سارة البوفي كاتبة وصحفية بالمؤسسة الإعلامية الرسالة… إعرف المزيد حول هذا الكاتب



الاثنين 26 يونيو/جوان 2023
في نفس الركن