كتاب الرأي

إن أسوأ من الأصم هو من لا يريد أن يُصغي” زوربا كزانتزاكي


المواطنون ليسوا على نفس المستوى في حل تعقيدات السياسة وطلاسيمها، وخارج المفهوم التقليدي للديمقراطية، فإنه ليس مطلوباً من كل المواطنين أن يتوفروا على حنكة سياسية وتصور فكري للممارسة الديمقراطية.. إن ذلك غير موجود حتى في البلدان التي أرست دعائم تقاليد باذخة، يقول المفكر الأمريكي رسل جيه دالتون: “يجب علينا بالتأكيد ألا نخطئ بالمبالغة في تقدير حجم حنكة الجماهير الغربية، فهناك دائما أمثلة لناخب يحمل آراء تفتقر إلى الحكمة والترتيب، بل إن بعضهم يبقى جاهلا بكل القضايا السياسية” (دور المواطن السياسي في الديمقراطيات الغربية).



بقلم: عبد العزيز كوكاس

إن الحراك الاجتماعي الذي عرفه المغرب منذ نهاية القرن الماضي، يُبرز أنه أصبح لدينا مفهومان للسياسة، كل مفهوم يتضمن مجموعة قضايا وقيما وسلوكات متداخلة، هناك السياسة التقليدية المصونة للنخب، التي لا تستقطب إلا جزءا من رأس المجتمع، أقصد السلطة السياسية والأحزاب والنقابات والمنظمات المرتبطة بالدورة الانتخابية أو بالانتفاع المباشر من دورة اللعبة السياسية ماديا أو رمزيا، هذه الممارسة التقليدية للسياسة “المحجبة والطاهرة” نجد تعبيراتها اليوم في الصحافة الرسمية، وفي جزء من الصحافة الحرة، والمميز الأكبر لهذه السياسة التقليدية هو أنها تُدار في أروقة معزولة عن سياق الدينامية الاجتماعية، موضوعها هو التمثيلية، التعيينات والترضيات و”همزات” الممارسة السياسية ببراغماتية غير نبيلة في الكثير من الأحيان، إلا عند من رحم ربك داخل البرلمان والحكومة والنقابات والأحزاب.. الحد الأقصى للممارسة السياسية التقليدية هو التحالفات الظرفية والأغلبية الحكومية والمعارضة المريحة والمربحة في آن..

هذا المفهوم التقليدي للممارسة السياسية يبدو مطمئنا ظاهرياً للمنجز اليوم في الحقل المغربي: استقرار سياسي في ظل حركية اجتماعية سلمية، تواطؤ أو توافق – لكل المعنى الذي يريده – بين مكونات اللعبة السياسية، منجز اقتصادي يقوده الملك وتتقاسم معه النخب فوائده دون أن تتحمل معه تبعاته.

وهناك دينامية سياسية جديدة، لا علاقة لها بالبرلمان أو الحكومة، هي التي تمارس في الفضاء العمومي، كان واقعيا أو افتراضيا، والتي تعكس أن عموم المغاربة أصبحت لهم معايير جديدة في تعاطيهم للسياسة، قوامها مختلف التعبيرات التي تنتقد الممارسة التقليدية، حتى بلغة عنيفة أو غير مريحة وجرأتها تتجاوز الحدود التي تعارفنا عليها أو تواطأ عليها جل الممارسين للسياسة بالمغرب، وضمنها أيضا أشكال الاحتجاج على سنوات الحكرة والفساد والاستبداد والاستبلاد، وروحها ضرورة إنزال السياسة من السماء إلى الأرض حيث ينبت الزرع، وشعارها “لا للفساد نعم للتغيير”، في اتجاه مغرب ديمقراطي حداثي يتسع لجميع أبنائه، والفضاء العام الذي تمارس فيه هذه السياسة هو الشارع وخارج المؤسسات التمثيلية، أو فضاء وسائط التواصل الاجتماعي بغته وسمينه.. وهو ما يمنح الديمقراطية المغربية المراهقة مضموناً اجتماعيا، ويعيدها لأصلها كممارسة حرة.

الشكل الأول التقليدي للممارسة الديمقراطية المصونة بالمغرب اليوم يبدو منعزلا عن سياق التطور العالمي، فرغم مظاهر حسن النية وضدها أيضا، فإنه لا يستقطب أكثر من ربع مجموع المجتمع المغربي على أبعد تقدير، النخبة السياسية التي تمرست بالاشتغال داخل المؤسسات ولا زال لديها قلب على البلد تعرف ذلك، رغم تنبيهها لمزالق هذه السياسة التقليدية ومآزقها وانعكاساتها على البلاد والعباد، فإنها بين أمرين، إما تجد نفسها معزولة أو بحكم صدقيتها وخوفها على وطنها لا تغامر بأكثر من التنبيه لطبيعة الإشكال، أو تصمت خوفا على ما تجنيه من فوائد هذه السياسة التقليدية المنحصرة في الأروقة العالية المعزولة عن المجتمع المغربي.

بينما الشكل الثاني للممارسة السياسية يتمثل في الدينامية الاجتماعية ونمو الحراك الاجتماعي الذي شمل كل الفئات، وأصبح يمتد إلى القرى والمداشر البعيدة، نواة السلطة المركزية في تاريخ المغرب، وفي قلب جيل جديد من أبناء الطبقات الوسطى خاصة في فضاء التواصل الاجتماعي، مستفيدا من الانفتاح الذي دشنته السلطة منذ مجيء الملك محمد السادس على الحكم.

كنا نعتقد أن الدستور الجديد يمكن أن يشكل ذلك الجسر الذي يصالح الجمهور مع النشاط التقليدي للسياسة المصونة، ويعيد زرع الثقة في المؤسسات والقيم والبنيات الأساسية للديمقراطية..

في كل النقاشات العمومية، المحدودة أصلا، لا يوجد تفكير جاد في محاولة تكييف الشكل الجديد للممارسة السياسية ليجد نفسه في الشكل التقليدي لها.. أي، كيف تعاد جسور الثقة بين المواطن والمشاركة السياسية في ظل بنيات الدولة ومؤسساتها التمثيلية.. وأخشى أن نجد أنفسها غداً أمام أرقام هزيلة لنسبة المشاركين في العملية الانتخابية، لا السلطة السياسية ولا الأحزاب بما فيها تلك المستقلة في نشأتها عن الإدارة المغربية، تطرح سؤالا واحداً حول موقع هذا الجمهور العريض، العازف عن كل أشكال الممارسة التقليدية للديمقراطية المصونة، وعن مشروعيتها التمثيلية.

إن المشاركة المحدودة للمواطنين ستجعلنا أمام ديمقراطية هزيلة بدون قواعد اجتماعية، أي رأس بدون جسد… في العمق هناك إحساس بازدياد عنصر فقدان الثقة في “البْرِيكُولاج” السياسي.. وجوه سياسية تقليدية حتى في بعض الأحزاب التي اعتدنا أن نقول إنها وطنية ديمقراطية، برلمان بوجوه معروفة راضية مرضي عنها، حكومة برأس كلاسيكي مفصول عن أي امتداد في المجتمع، ونسب هزيلة في المشاركة السياسية، هل اكتمل النصاب القانوني لممارسة الديمقراطية المصونة؟!

إننا أمام ثورة حقيقية في المفاهيم والأفكار، في الممارسات والبنيات والمواقف.. مئات الآلاف يتظاهرون شهريا في مجالات وقطاعات ومناطق عديدة، هوامش أبدعت أشكالا احتجاجية جديدة ضد التهميش والفقر والحكرة، جيل جديد يعيش في قلب عالم افتراضي يمنحه الإحساس بالسخط والغضب دون أن يمتلك حس المبادرة الإيجابية للمشاركة في التغيير… كل هذا لا أثر له، للأسف، حتى في تفكير شبيبات الأحزاب السياسية التي اختار بعضها يشد لطوروت رقصا وخّا باقي الشعب مهموم!

رحم الله زمناً كان فيه لكل معركة في الشارع صدى في هذه الأحزاب أو النقابات وجمعيات المجتمع المدني، لم يعد للأنشطة الاجتماعية في أشكالها الجديدة أي أثر في التحرك الحزبي، وهنا مكمن الداء..

إن الممارسة السياسية النبيهة اليوم، تقتضي الإنصات إلى القاعدة الاجتماعية وما تزخر به، وعلى كل الفاعلين السياسيين أن يعوا جيداً أن الطريق نحو الديمقراطية الحقة يمر عبر الحوار والاهتمام العام والمشاركة الواسعة في الممارسة السياسية، عليها أن تُنصت لما يُعتمل في قاع المجتمع، وأن تُدخل نفسها في إطار التمرين الديمقراطي الواسع.. أما السرعة التي تؤثث الفترينة الديمقراطية: دستور مجمع عليه، اقتراع شفاف بمشاركة غير مسبوقة، وزير أول من صناديق شفافة يعبد لها الطريق، برلمان وأغلبية حكومية، حكومة غير مزعجة ومعارضة مضمونة العواقب، وهامش مجتمعي شاسع وفوار، فلا يعني سوى المهزلة! فلا ديمقراطية بلا سياسة تشاركية وتمثيلية ذات مصداقية ووسائط ناجعة ومؤسسات تمثيلية تتمتع بالمصداقية وتعيد للمغاربة عنصر الثقة أساسا.

إننا أمام جمهور متغير له مطالب آنية، جمهور بدون أب تقليدي يمكن إغراؤه أو لجمه أو التفاوض معه أو إخضاعه من خلال توريطه في ملفات أو قضايا مالية أو أخلاقية، جمهور يمتد عبر شساعة جغرافيا الوطن وله مطالب لا تجد صداها في البرلمان ولا في الحكومة ولا في معظم الأحزاب، فعن أي تراكم ديمقراطي سنتحدث؟!

لا خيار إذن سوى فتح سبل الحوار مع كل المعارضين للشكل التقليدي للممارسة السياسية، والتفات الأحزاب المستقلة إداريا عن السلطة لما يُعتمل في العمق الاجتماعي.. إن مغرباً مستقراً وهادئاً لن يكون بدون إمداد الجسور بين الشكل التقليدي للممارسة السياسية وبين النشاط الاجتماعي لعموم المواطنين ونشاطاتهم السياسية، وعلينا استيعاب المشكل قبل فوات الأوان!

إن جزءاً كبيراً من التوازن القائم اليوم، بين مفهومي الممارسة السياسية، “الشعبي” و”الرسمي” إذا جاز لنا التعبير، يعود إلى الحياد السلبي للطبقة المتوسطة في المغرب، التي توجد في وضعية المتفرج اليوم، إنها غير معنية بما يحصل من توافقات سياسية، إذ إن انخراطها فيها ظل محدودا، لذلك لا ترى السلطة السياسية ضرراً في حفاظ الطبقة المتوسطة على حيادها اتجاه الحراك الاجتماعي وفي ابتعادها عن المشاركة في اللعبة السياسية، لكن هل سيستمر وضع الستاتيكو إلى الأبد.. لا أريد أن أكون متشائما!

إن الأمر في المغرب، أشبه بملعب لكرة القدم، هناك اللاعبون في أرضية الملعب، يتنافسون بينهم وفق قواعد لعب مضبوطة وهناك حكام يسهرون على تطبيق قانون اللعبة وتوجيه الإنذارات لمن يخرقونه، وهناك الجماهير التي لم تعد تتفرج على اللعبة لا تشجيعا ولا حماسة إلا لدى ما ندر وتستلذ بلعبها الخاص الذي يطفو بشكل غريزي أحيانا، وهناك الطبقة المتوسطة في منَصَّة شرفية تتفرج بحياد بارد مرة على اللاعبين في الملعب، ومرة على تتبع “لعب” عموم الجمهور دون حماسة تذكر.

سارة البوفي كاتبة وصحفية بالمؤسسة الإعلامية الرسالة… إعرف المزيد حول هذا الكاتب



الأربعاء 9 أكتوبر 2024
في نفس الركن